Articles

وراء كل صورة حكاية

بقلم جبريل عائشة لي

في إحدى القرى النائية في السنغال، حيث تغفو الأشجار على أكتاف الأودية، كان هناك يتيم صغير اسمه (Ameth Ndiaye) يحمل بين عينيه البريئتين، بريقَ الأحلام،كنجمتين تومضان في ليل بهيم، لم تطمسها بعد..قسوة الحياة.شدّ الطفل النحيل همّته العالية، ليخوض غمار (سباق الحمير) السنوي، متكئا على حلم صغير يتّقد في أعماقه كجمرة حمراء، مستعينا بحماره الذي حسبه وفيا، ذلك الرفيق الصامت الذي حمل أثقال أيامه وتقاسم معه دروب الحياة القاسية، وكأنهما في صمت المسير عقدا عهدا لا يُكسر

كان Ameth Ndiaye يحمل في قلبه الصغير أمنيّة تكبر مع كل خطوة، يتأرجح بين براءة الطفولة وعزيمة لا تعرف الاستسلام، عازما أن يجعل من تلك اللحظة بصمة لا تنسى في مهرجان القرية.
كان الحمار الذي أطلق عليه اسم ” مودٌ لو ” رفيقه في درب الحياة، وصديقه في الأوقات الصعبة، وموضع ثقته حين خانته القرى والبشر…

اجتمع الناس على أطراف الساحة؛ حيث يجرى السباق، يتهامسون عن هذا الطفل وحماره الذي بدا أنه لم يكن مجرد دابة..بل انعكاس لحلم مشترك بين الاثنين. بدأ السباق المنتظر..ولكن في لحظة حرجة، توقف الحمار فجأة، وكأنه قرر خيانة صداقته مع Ameth Ndiaye، التي حملتها الأيام. استدار الحمار عن المسار..وأخذ يبحث عن بقعة ظل تحت شجرة قديمة، تاركا الطفل الصغير وحيدا، واقفا منكسرا، يلعنه الحظ، وعيناه تذرفان دموعا ليست للحزن، بل للدهشة والذهول

كان الناس يضحكون، وكانت ضحكاتهم كالسكاكين التي تحفر في قلب الطفل، ولكن في أعماق المشهد..بدا أن الحمار لم يكن خائنا بقدر ما كان معلما… قال أحد الحكماء في الحشد، وهو ينظر إلى الطفل والحمار: ألم تتعلم من التاريخ يا بني؟ لقد خان بروتوس قيصر، وخان يهوذا المسيح، وخان الإنسان الأرض وميثاق الله… فما بالك بحمار؟

لم يكن الحمار إلا رمزا لذلك الذي يثقل كاهله العبء حتى ينكسر، ثم يقرر الانسحاب بصمت…كان انسحابه صرخة صامتة ضد منطق السباق نفسه. يهمس بأن الحياة ليست هرولة في الساحات، بل وقوفا متأمّلا في ظلال الحكمة التي تغيب عن أعين المنشغلين بالصخب..

عندما استسلم الطفل لصمت اللحظة، غارقا في تأمل المشهد بعينين مشدوهتين، بدأ يتقصّى خفاياه خلف ستار الدهشة. انبجس في قلبه إدراك عميق بأن ما بدا خيانة لم يكن إلا درسا متواريا في ثوب الألم. كانت الحقيقة تشق طريقها إليه كوميض خاطف، تحمل معها مرارة الوجع، لكنها في ذات الوقت تسلط الضوء على جوهر كان مستترا عن ناظريه. وفي خلوة أفكاره، تناهت إليه كلمات دوستويفسكي من (الأخوة كارامازوف) “الألم هو شرط الوعي” وكأنها مرآة تعكس تجربته. سأل نفسه، كمن يستجلي حكمة خفية: “ألم تكن خيانة الحمار ألما قاسيا أزاح غشاوة الوهم عن بصيرتي؟ ألم تكن هذه الخيانة صوتا خافتا يقودني إلى حقيقة أعمق تتجاوز السطح إلى صميم الحياة؟
وفي تلك اللحظة، أشرق داخله يقين لا يقبل الجدل وهو، أن الألم وإن ارتدى ثوب القسوة، هو المعلم الأعظم الذي يكشف لنا عن جوهر الأشياء، ويفتح لنا أبواب الوعي بعيدا عن خداع المظاهر وزخارف الأوهام.

في ختام الحكاية، وبعدما نضج الطفل وفقه الحياة، نظر إلى الحمار وقال بصوت هادئ يشوبه التأمل: شكرا يا رفيقي الأخرس، علّمتني أن أتحرر من طوق السباقات التي لا تنتهي..تلك التي تصادر العمر في مطاردة سراب الانتصار. علّمتني أن أستمع لصوت الظلال ولحفيف الأشجار، حيث تُنسَج الحياة الحقيقة بعيدا عن صخب الجمهور وأوهام الانتصار .
ومنذ ذلك اليوم، غدت الحادثة رمزا يتناقله الناس، تذكيرا بأن الخيانة ليست دائما خيانة، بل قد تكون وجها آخر للحكمة المستترة، وأن في كل كائن صامت درسا عظيما، لمن يتقن فن الإصغاء إلى ما وراء الكلمات.

السماوي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى