Articles

من وحي الهجرة

كتب – محمد علواني
دائمًا ما تؤرخ الأمم لنفسها بأحداثها العظام
التي مرت بها والتي كان لها الفضل الأكبر في بناء حاضرها وصناعة مستقبلها، وأمتنا أمة الإسلام تاريخها مليء بالأحداث العظام التي لم تؤثر عليها فحسب بل تغير بها وجه العالم، وكل منها سيظل نبراسًا يضيء للأمة طريقها وتستشرف به مستقبلها، فميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثته، وهجرته، وانتصاراته، والفتح، ووفاته كلها أحداث عظام كان لها الأثر البالغ في حياة الأمة الإسلامية والجماعة الإنسانية، ولذا نتساءل: لماذا كانت الهجرة هي الحدث الأعظم من بين كل هذه الأحداث ليقع اختيار الصحب الكرام عليه ليؤرخوا به للأمة؟!
إن الصحابة -رضوان الله عليهم -كانوا يبحثون عن حدث اشتركت في صنعه كل عناصر الأمة؛حدث لا يرتبط بالأشخاص بقدر ما يرتبط بالفكرة، إذ إنهم يفهمون جيدًا أنهم جنود فكرة وعقيدة، ويفهمون كذلك أن فكرة الإسلام لا قيام لها إلا بجماعة مؤمنة، وأن جهد الفرد مهما عظم فهو قليل تجاه ما تتطلبه إقامة فكرة الإسلام في الأرض، فكان حدث الهجرة هو الرابح من بين كل هذه الأحداث العظام، إذ اشتركت في صنعه كل عناصر الأمة: الرجل والمرأة،والطفل والشاب والشيخ، بل والمسلم وغير المسلم؛ فكان دليلهم في الهجرة عبد الله بن أريقط ولما يسلم بعد!
وكان أعظم حدث على الإطلاق إذ تحول به الإسلام من مجرد فلسفات ونظريات تسكن العقول إلى واقع معيش يتعامل به المسلمون، فأقيمت الدولة لتحفظ الدين ،وتصون الأعراض، وتحفظ الدماء، وتحقق الأمن، وتنشر الوعي، وتنفذ القانون، وما لبث أن اعترف العالم بهذا الكيان السياسي الجديد وهذه القوة الجديدة الفاعلة على الأرض؛ يبرم معها المعاهدات ويتبادل معها الرسائل، وتسارع القبائل بالدخول في حلفها لتنعم بالأمن في كنفها والاستقرار والرخاء تحت لوائها!

وإن المتأمل في أحداث الهجرة النبوية الشريفة ليسترعي انتباهه العديد من المواقف التي تشير أحداثها إلى الكثير من المباديء والقيم التي ضاعت بيننا فضاع معها سر قوتنا، وذهبت ريحنا ،وأصبح بأسنا بيننا شديدا، ولا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به اولها ، ولذا كان من الواجب ان نعايش بعض هذه الاحداث نستلهم منها العظة والعبرة، ولنرى كيف كنا وكيف اصبحنا.
استوقفني كثيرًا ذلك الموقف لفرعون هذه الأمة: عمرو بن هشام ، والذي ناصب هذه الدعوة العداء منذ أول أيامها ومنذ صدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأل جهدًا في صد الناس عنها وإلحاق الأذى بكل من انتسب إليها، حتى قاده شيطانه إلى التخطيط لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض خطته الشيطانية على قومه فأجابوه لها بأن يجمعوا من كل قبيلة شابًا جلدًا يعطونه سيفا ليحيطوا ببيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حتى إذا ما خرج منه يضربونه ضربة رجل واحد فيتوزع دمه على القبائل فلا تستطيع بنو هاشم أن تثأر لدمه من كل العرب وتقبل فيه الدية.
وبالفعل أحاط الشباب ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتظرين خروجه حتى أعياهم الانتظار، فذهب أحدهم إلى أبي جهل متسائلًا: يا أبا الحكم، أنحن قاتلو محمد قاتلوه؟!
فقال له أبو جهل: ويحك ،نعم، فلم جئنا إذن؟! فقال له الشاب: فما الذي يمنعنا من أن نتسور عليه بيته؟!
فإذا بأبي جهل يقول له: أتريد أن يقول الناس إن أبا الحكم قد روع بنات محمد!
أبو جهل لا يريد أن يروع بنات رسول الله ولا يريد أن يفجعهن بقتل أبيهن أمام أعينهن! ولا يريد أن ينتهك حرمة البيت ولا أن يهتك ستره!
بل إنه -كما روي- لما لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ، قصد بيت أبي بكر بحثا عنه لما يعلمه من قوة الرابطة التي تجمع بينهما ، ولما لم يجدهما استشاط غضبًا ، فلطم أسماء رضي الله عنها لطمة شقت اذنها وأسقطت قرطها، وما لبث أن ابتعد عن بيتها حتى عاتبته نفسه، فقال لمن حوله: اكتموا عني هذه الفعلة حتى لا يقول الناس إن أبا الحكم قد أخذ أسماء بذنب أبيها!
لقد كان أبو جهل من أكابر المجرمين ،ولكنه حقا كانت لديه أخلاق ومباديء يفتقدها الكثير في عصرنا، والذين يتسمى أكثرهم بأسمائنا ، ويدينون بديننا، ويرفعون شعار الإصلاح وهم ينكلون بنا، فليتهم يتعلمون منه شرف الخصومة ، فلا تتعدانا خصومتهم لنا إلى أبنائنا وبيوتنا تهديدا وتخويفا وترويعا وتنكيلا، فلقد فاقت جاهليتهم بحق جاهلية ابي جهل ، وإلى الله المشتكى.
ومن المواقف التي تستحق أن نتأملها أيضًا موقف علي بن أبي طالب عندما نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم مستعدًا أن تناله سيوف المشركين ولا أن يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة! يقدم نفسه للموت فداءً لدعوته وانتصارًا لمبادئه. وكذلك موقف أبي بكر حين دخل غار ثور قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخلصه من أي آفة قد تصيب رسول الله عليه وسلم بأذى؛ فيسد الجحور التي به حتى لم يبق إلا موضع جحرين فألقمهما قدميه، ثم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وينام على فخذ أبي بكر الذي لم يسلم من اللدغ لتنزل دموعه من شدة الألم على وجه رسول الله، فتوقظه ليمسح بريقه الشريف على موضع اللدغ فيبرأ أبو بكر! بل إنه رضي الله عنه وأثناء المسير إلى المدينة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة يمشي أمامه وتارة يمشي خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله خشية أن يأتي سهم غادر من هنا أو هناك ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يقدم نحره الكريم دون نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه يوقن أن الحفاظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاظ على الدين وانتصار لمبادئه وقيمه! وكأنهما رضي الله عنهما يقولان بلسان الحال قبل المقال: أموت وتحيا دعوتي.

نعم، إن رسالة المصلحين أحبتي في هذه الحياة هي الجهاد لإرساء المبادئ والقيم التي لا قوام للحياة إلا بها، ويشملها جميعا: لا إله إلا الله، ومن مفرداتها الحرية والعدالة، والمبدأ عندما يرسى تسعد به أجيال متعاقبة، وعندما يغيب يشقى الناس حتى يرجع بينهم ذلك المبدأ، ولذا فكل ما يبذله المصلحون في سبيل ذلك رخيص رخيص بدءًا من إنفاق راحتهم وحتى بذل نفوسهم التي بين جنباتهم، وهذه هي بنود الصفقة التي عرضها عليهم ربهم “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة”

واستوقفني كذلك ما قاله النبي صلى اللعليه وسلم لسراقة وهو في طريق هجرته والمخاطر تحيط به من كل جانب، وغيره في هذا الموطن ربما لا يأمن على بولته، وهو المطارد والمهاجر الذي أخرج قسرًا من وطنه حيث بيته وأهله وماله إلى مجهول لا يعلم حقيقته إلا الله، يقول له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه؟ فقال له سراقة: كسرى بن هرمز؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!

ثقة وأمل امتلأ بهما قلب صاحب الدعوة الأول وأصحابه من بعده، ففتح الله لهم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، واستطاع بإيمانه وعمله المتواصل في ثلاث وعشرين سنة فقط أن يحول شبه الجزيرة العربية من أمة استشرى فيها الفساد بكل ألوانه ومعانيه إلى خير أمة أخرجت للناس، فبدون الثقة في موعود الله، والأمل الذي لا يخالطه يأس، لا يمكن لسائر في طريق الله أن يصل، ولا لدعوته أن تنجح، فلنجدد أيها الأحباب إيماننا، ولنثق أن العزة لله، وأن النصر للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، جعل الله هذا العام عام زوال للظلم، وهلاك للظالمين، وفرج للمكروبين، ونصر للمؤمنين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى