
من أزّقة الأسواق إلى أروقة الحرم
في عام 1998م خرج الشاب بابا وغي وهو
في شرخ شبابه وريعانه من دكار متجهًا إلى دولة (الكونغو) قبلة الشباب في ذلك الوقت, وسيرًا على منوال أسلافه في طلب الرزق والكسب, في صحبة رفيق دربه وابن أخته الشيخ محمد حبيب وغي الداعية المعروف في منطقة فوتا حاليًا.
بعد سنتين كاملتين في مزاولة التجارة ومجاورة التجار تحت إشراف شقيقه الأكبر الشيخ الحسن وغي -الداعية المعروف في كونغو- لم يجد الشاب ضالته في هذه الأسواق رغم رواجها وغزارة وارداتها, من ثَم فكّر أن يغير المسار ويرحل من السوق, ويهاجر التجارة سالكاً طريقًا يلتمس فيه علمًا يقربه إلى ربّه ويرفع عن نفسه الجهل في الدين, وكانت الرغبة نفسها هي رغبة رفيق دربه الشيخ محمد حبيب وغي ,فخرجا إلى دمشق عاصمة الجمهورية العربية السورية عام 2000, والتحقا بمعهد الشيخ بدر الدين الحسني – محدّث الشام المعروف- وتخرجا فيه بالشهادة الثانوية.
خلال هذه الفترة الشامية تلقى الشاب العلم على يد كثير من مشايخ الشام كالشيخ كريم راجح شيخ قراء بلاد الشام, والشيخ عبد القادر الأرناؤوط المحدث المشهور, والشيخ أحمد المفلح, والشيخ البسام الحسيني الذي كان يحبه حبا خاصا, فكان يزوره كلما زار الحرمين الشريفين ويجلس معه, فغرسوا فيه حب العلوم الشرعية عموما وعلم الحديث بصفة خاصة, وزامل عددا كبيرا من الجزائريين والمغاربة والتونسيين والموريتانيين فكان بينهم قائًدا محبوبًا لدى الجميع .
بعدما شارفت شمس الفترة الشامية على الغروب, فكّر الشابان في سبل مواصلة الدراسة في المرحلة الجامعية, وكانت أمنيتهما الدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أو في إحدى أخواتها, فخرجا إلى بلاد الحرمين الشريفين معتمرين, ومن وراء العمرة طلب القبول في الجامعات السعودية, فقدما ملفيهما إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وجامعة أم القرى بمكة وذلك في عام 2003 .

وبالفعل تمت الموافقة على طلب الشاب وقبوله دون رفيقه في جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 2004, فرجع إلى السنغال للقيام بإجراءات السفر إلى بلاد الحرمين الشريفين في رحاب تلك الجامعة العريقة, من ثمة بدأت فترة جديدة في مسيرته العلمية وهي الفترة الحجازية .
بعد وصوله جامعة أمّ القرى قُيِّد في معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها, وظل مقيدًا فيه لمدة سنتين, ثم التحق بكلية الدعوة وأصول الدين – قسم الكتاب والسنة- للمرحلة الجامعية, وخلال الفترة الجامعية لازم الشاب حلقات التعليم ومجالس العلماء الكبار في المسجد الحرام, ولازم حلقات تحفيظ القرآن الكريم بجامع (عاشور بخاري) بمكة المكرمة والتي يشرف عليها فضيلة الشيخ الدكتور حسن بخاري -إمام الحرم المكي سابقا – الشيخ الذي لم يفارقه الشاب ولم يتخلف عن دروسه في المسجد الحرام ودوراته خارج الحرم منذ أن عرفه, وفي تلك الحلقات أتم ابنه محمد حفظ القرآن الكريم , هكذا ظل الشاب يتراوح بين الجامعة والمسجد الحرام وحلقات التحفيظ حتى تخرج من كلية الدعوة وأصول الدين بالبكالوريوس.
لم تقف همة الشاب العالية في طلب العلم عند هذا الحد, إذ كان يتطلع إلى أبعد من الشهادة الجامعية, فطلب القبول في الدراسات العليا لتعزيز ملكة القراءة والاطلاع والبحث العلمي والتأليف, فرُشِّح في قسم الدعوة والثقافة الإسلامية – تخصص الثقافة الإسلامية – بكلية الدعوة وأصول الدين, وسجّل في القسم رسالة نفيسة بعنوان « أثر التعليم الفرنسي على ثقافة المسلم المعاصر في السنغال دراسة ميدانية » وهي رسالة جيدة ونافعة في المكتبة السنغالية حيث عالجت تاريخ توغل التعليم الفرنسي في السنغال وأثر مناهجه التعليمية على الشعب السنغالي في كل المجالات, والسبل العلمية والعملية لمواجهة هذا التأثير, وساعده على معالجة هذا الموضوع المهم معرفته الدقيقة بهذه المناهج إذ ترعرع ونشأ عليها من الابتدائية إلى الثانوية في المدارس الحكومية, وذلك قبل رحلته إلى (الكونغو), ولذا نأمل منه أن يسعى إلى إخراج هذه الرسالة المهمة إلى المكتبات العامة.
بعد مناقشة هذه الرسالة والحصول على الدرجة ارتقى إلى مرحلة (الدكتوراه) وسجل رسالته في قسم الدعوة والثقافة الإسلامية – تخصص الدعوة – و عنوانها: « المنهج الدعوي للإمام البغوي من خلال مؤلفاته رحمه الله» ونوقشت هذه الرسالة عام 2022 وحصل على الدرجة العلمية (الدكتوراه).
أكثر من عَقْدَين يجوب هذا الشاب الهمام الفيافي والقفار, ويعبر الأنهار والبحار, ويواصل الليل بالنهار طلبا للعلم الشرعي, لم يصب بملل ولا كلل ولا يأس ولم يفتر ساعة, فبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس, فـتكوّنت لديه ملكةٌ علمية وحصيلة معرفية متميزة.
علاوةً على ذلك فقد كان رجلاً اجتماعيًّا خدومًا من الطِّراز الأوّل, حيث كانت شقته في مكة خلال هذه الفترة الطويلة قبلة طلبة العلم الوافدين إلى مكة للحج أو العمرة من شتى أنحاء المملكة العربية السعودية وخارجها, ولا أعرف طالب علم استضاف الناس في مكة استضافة الشاب زملاءه وأسرهم, فكانت أبوابه مفتوحة للجميع في سائر الأوقات, بل كان يتشرف باستقبال العلماء والدعاة زائري المسجد الحرام في بيته, فكان كريما مضيافًا يجود بوقته وماله, وكان يجمع حُجاج مدينة “بوكجاوي” الوافدين من شتى أصقاع المعمورة في بيته سنويًّا بعد الحج للغداء, فتكتظ الصالة بهم, وكنا نسمي هذا اليوم عيدًا تعويضًا لعيد الأضحى الذي نقضيه بين الرمي والطواف والسعي وبين المشاعر عادةً.
مما أعجبني في أمر الشاب ورعه وقناعته وزهده, هذه صفات يلمسها فيه كلّ من صحبه ولو هُنَيَّة من الزمن, عاش في مكة خلال هذه الفترة الطويلة, وتعرّف على شخصيات كبيرة في مجال العلم والعمل الخيري, حرمه ورعُه وزهده من الاستفادة من خيراتهم, فلو أراد أن يُؤمِّن لنفسه مستقبلا جيّدا – كما يقولون- لكان السبيل إلى ذلك مفروشا أمامه بالورود, ولعل السر في ذلك أنّه هاجر أسواق (الكونغو) بأموالها لله فأمضى الله هجرته.
أعجب من ذلك عبادتُه, فقد كان ملازمًا للمسجد الحرام ملازمة عجيبة, وكان له سفرة خاصة للإفطار في الحرم مع زملائه يومي الاثنين والخميس أسبوعيًا وأيام البيض, ويخدم الصائمين والحجاج والطائفين العاكفين في المسجد الحرام تقربًا إلى الله, لا يرجو من أحد جزاء ولا شكورا, لولا خشية الإحراج لذكرت أشياء كثيرة عن عبادته وحبه الخير وسعيه الحثيث في نفع القريب والبعيد.
هذه الأسطر غَيضٌ من فَيض هذا الرجل الفذّ الدكتور بابا وغي البُوكِجَاويّ, فقد خرج من “بُوكِجَاوي” شابًّا يافعًا مفعمًا بالحيوية, ورجع إليها بعد عقدين وقد اشتعل مبيض رأسه ولحيته في مسودهما دكتورًا في الدعوة وأصول الدين, عالماً فقيهًا, معلمًا مربيًا, وداعيةً حكيمًا مرشدًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا, أسأل الله الكريم أن يمتعه بالصحة والعافية وأن يحقق له أهدافه العلمية والعملية والدعوية وينفع به العباد والبلاد.
حرَّرَه أخوه وحبييه ورفيقه الدكتور إبراهيم
جكيتي
دكار 01/11/2023
3
ماشاء الله رائع جدا، زادنا الله وإيانا علما نافعاً مباركاً ❤️❤️
Wow, amazing weblog structure! How lengthy have you ever been blogging
for? you make running a blog glance easy.
The overall look of your website is excellent, let alone the content material!
You can see similar here najlepszy sklep