Articles

مقال: في ظلال الحروف ..!

المختار السالم

الكتابةُ بالزجاج تجرح قداسة اللغةِ.. وهي نقيصَة لسلطةِ العقلِ.
لقد ردَّ أبو تمام، طيّب اللهُ ثراه، على “الناقدِ البقريِّ”.
أما أنا، فلن أنفخَ الروحَ في الفقَاعَاتِ الفاقعةِ.
لهذا سيكون الحديث عنك وعن الجبل والشعرِ.
عينان تغرقانِ في غفوةِ منزوعة الحلمِ.. تبصرانِ المحتملَ الهابطَ في منتصفِ الوهمِ.. التُّـراب الموسومٌ بالريحِ، والكفُّ الغريفُ بنبضِ موجٍ تبخرَ في النسيمِ العابرِ… أخبرتك كيفَ أخبرني البحر عن البحرِ فحدَّثَ بمجدافٍ وسارية وشراعٍ، وشاطئٍ لا وجود له. وزادَ إغواءَ حاستي التشكيلية بمدحِهِ منحوتةَ الغَرَقِ.
يضمَحلُّ البحرُ في المفرداتِ الفقيراتِ. ليسَ للنوتيِّ أن يهجرَ شراعهُ، ولا أن يترك أغانيهِ المختزنةِ أحلامهِ ويراعه. سيصعدُ النوتيُّ يومًا إلى “تَـلةِ القمرِ”، لن يطعمَ الصنارةَ لذاتها، سيبحرُ لا محالةَ ولن تخذله أروقة الغيمِ، وسيغني في أعالي البحرِ أغنيةَ العودةَ.. “جبلُ الموجِ أسرع، جبلُ الثلجِ سلالةُ الخفوتِ. مشاعر بحَّار ذخيرة تلقيم في حاناتِ الشارع المهجورِ”.
قادمٌ من بطاحٍ لم تنبطح للعُشْبِ شبراً ولم تعرفِ من دونهِ ستراً.. بحثاً عن “مطلع” في الجبلِ التيرسيِّ، الجبل المـُنحني باتجاهِ الناظرِ. يحثُّـني التاريخ على مصالحةِ المكانِ. ينصحني بالحوارِ مع الأقنعةِ لا الشخوص، ويسكبُ بصمةَ ظليِّ في رحلةِ الخيمة والغيمة.
فاجأتني حياةُ الجبال؛ أعجاز ضخمةٌ منغرسةٌ في الترابِ، ورؤوسٌ تَـتعمم بالسحابِ، وتؤثثُ المشهد الخلاب بملاعب للنسورِ، وخصلاتِ العشبِ المتدليةِ من الصخرِ تنشد للوعلِ في سفحِ لا كفيف ولا حسير.
ما من شيئين يتشابهانِ أكثر من الجَبلِ والشّعرِ. سأغضب إن سألني “ناقد رمليٌّ” بعبارة “كيف!”.. “بيِّـن لنا لطفَـه وحنانَه؟”.. عليك النظر حيث يحتضنُ الجبل بيض العصافيرِ، حيث يجودُ بكلِّ قطرة ماء تلـمسُ كيانَـهُ المهيبَ.. حيث تلك الغرابيب في خشوعها الصوفيِّ مع الأبدِ أسطورة وتسطيرًا.
للجبلِ وللبحرِ غنّـيْتُ… أما كيف فإنَّ التفاصيل لا تلفها مِلحفة في رفرفةِ.
لا تنفجرُ اللغةُ في مستوى الوُعورةِ. أعودُ إليكِ متعبَ التعبِ، مهزومًا في المعاركِ التي وقَّعْتُ على خسارتها قبلَ اصطفافي في الخرائط محاذياً شفرة النَّصِ.
دمْدَمْتُ على خطوكِ.. كان وقعاً يزمزمُ بين الربى والصبا والرئيَّ المجتبى.
أسألكِ الصعودَ إلى الجَبلِ.. أسألكِ البقاءَ في القصيدةِ.
أدمنت كلماتيِ الـمُرائيةَ في عالم ملوَّث إغوائياً. كم مرةً قلتها ولم يسمعني أحدٌ.. “القمر أوُل مفردةٍ شعرية في تاريخِ اللغةِ”، كانَ الجبلُ المحفورُ في ذاكرةِ الدليلِ هو المَكان المنقىَّ بطهر الحلمِ.. أفهمكِ بعدَ إشراقةِ الصمتِ؛ راودكِ سرابٌ أعزب، في تخومِ الروحِ، والزمنِ النطيح، في يرقاتِ المجدولِ الغامقِ الذريح.. عندما يصبح السقفُ مريدَ الريح، ألملمُ حقائبَ البذرِ حتى لا نُـكررَ الرحيلِ الذي يبدأ من خطيئةِ القطفِ.
سأرقيكِ بقصيدةٍ يوماً ما. فليكنِ التوقيع بأظافركِ.. فقد أصبحُ وكيلَ اللغةِ في عقد قرانِها على الشعرِ.
كل التعريفاتِ التي وضعوها للشعر وضعوها في غيابـِكِ. كنتِ سيدةَ الصّمتِ، الذي يملأ الدنيا صخباً أزرقَ. صخباً يتناكرُ بينِ المقاماتِ المتورّدةِ في لفافةِ وتر.
هل غنَّاكِ “طائرُ اللهب” رماداً؟
أنت التعريف الحقيقي للشعرِ.. و”عيناكِ نقطتا نهاية”.
وعندما لا تحتاجين إلى هامشٍ، هذه سيرتي الذاتية.. أنا الصوفيُّ الأخيرُ. صومعتي حانة الشظف، وصلاتيِ بيت القصيدِ. فلا يفتنكِ دعائي ولا تَخصفي الدنيا بأشلائي مهما زعموا أنَّ قصائد الدنيا لا تجبُّ شهرياريتي! فالزعم الهلاميُّ نية زئبقيّةٌ وتهمةٌ “رئبقيةٌ”. اسمعيني في حيِّـزٍ ستائريِّ.. ظلكُ أصلٌ أفرغ البحرَ والمدادَ لتُـسرفَ الرجعياتُ العابرةُ للشغافِ.. إنَّ ظلالَ الكريمِ تهتزُّ.
لن أخبرَ فقهاء اللغةِ بما عليهم فعلهُ لمُقايظَةِ الكلماتِ التي نستغفِلُها بـِضمير غائب. فظلُّ الدميةِ أفصحُ من دميته. وظل الملح ماسخ. وظلُّ الزنابقِ لا يفوحُ عطراً.
تمكسي بصُوفةِ الحرفِ.. فعادة ما تذهبُ الإبرُ وتبقى الخيوط هي التي تحكم النسيج.

شاعر وكاتب موريتاني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى