بقلم: د.جيم عثمان درامي*
من أخص ما يمتاز الوطن السنغالي المسلم ميلاد شخصيات إسلامية بارزة في شتى أنحاء البلاد. ومع الأسف الأشد إن الكثرة المطلقة من الشيوخ المعلمين المربين غير معروفين كما ينبغي. ومن بينهم الشيخ الجليل العالم المربي مختار اندُمْبِ جوب، الذي له دور عظيم في بناء وطننا علميا ودينيا وثقافيا وروحيا واجتماعيا وتربويا. والأسطر التالية تحاول التعرف بهذه الشخصية الإسلامية، إسهاما في تجسيد شيء من حياتنا أجدادنا الكرام مؤسسي المدارس الإسلامية في السنغال.
استنادا إلى تصريحات الحاج مختار جوب، إمام مسجد كوكي سابقا، إن أسرة جوب تنحدر من أصل موريتاني، غادر أحد أجدادهم بلاد الشنقيط للاستقرار في بلاد وُلُوفْ في قرية اندُوبُو الواقعة في منطقة وَالُو. وأحد أحفاده دمب وُوتو، الذي دخل في الإسلام هو الذي غادر والُو واستقر في انجَامْبُورْ. وكان أول من أسلم من أفراد أسرة جوب في انجَامْبُورْ. أما ابنه هيِّب فقد ولد مسلما ودرس القرآن عند أسرة جخاتي في امباكول. كما ولد ابنه سامب هييب في الإسلام.
ومختار اندمب جوب هو ابن سامب أَيِبْ جوب، ابن أيبْ وُنْتو، ابن ونتو ماجانْ، ابن ماجان طاحي، ابن طاحي جاصو، ابن جاصو هُلِمَةَ، ابن عبد الله حيدر الذي جاء من إمبراطورية غانا، كما يقول البعض. أما والدته فهي ندُمْبِ سِيكْ من قرية جورورْ سيك، مقاطعة لوغا. وتؤكد المصادر، أنه هو أول من تبحّر في العلوم الإسلامية من أفراد قبيلة جوب.، وبفضل مختار اندمب اكتسبت أسرة جوب في انجامبور مكانتها العلمية والدينية. لقد قدمت أسرته من منطقة والو، شمال السنغال، واستقرت في قرية وَرَكْ نجاتارْ في كَجُورْ . بينما يذهب الحاج راوان امباي إلى أن أسرة المؤسس هاجرت إلى امباكول في كَجُورْ قادمة من فوتا تورو . وقد يمكن الجمع بين المصدرين، إذا علمنا أن منطقة والو تعتبر بدايةً أو امتدادا لفوتا تورو.
تقول الروايات الشفهية إن الشيخ مختار اندمب جوب بدأ تعلمه القرآني في مسقط رأسه وَرَكْ انجَاتَارْ، على يدي والده سمب أيِبْ. ثم واصل مؤسس كوكي تكوينه العلمي في امباكول، على أيدي علماء وحفّاظ مشهورين خاصة من عائلة جخاتي ” العريقة التي يرجح أنها تنتمي إلى العائلات السودانية والتي استقرت في هذه البلاد من مملكة مالي. وقد التحق مختار ندمب جوب ايضا بمدرسة بير الشهيرة، لدراسة الفقه المالكي وعلوم الشريعة، وذلك اعتمادا على وثيقة تاريخية ورد فيها قوله: أنا أنهيت دراسة هذه النسخة من هذا الكتاب في يوم الجمعة بتاريخ 03 من شهر رجب سنة 1183 هجرية، في غرفة صديقي محمد فالْ، المعروف بدِمْبَا فالْ، سَرِجْ (الشيخ) بِيرْ بن محمد فالْ، المشهور بتدريس علم الفقه وعلوم الشريعة” . وقد أكد الإمام مختار جوب مرور الشيخ مختار ندُمْبِ جوب بمدرسة بِيرْ.
ومن جانبه أكد الشيخ مَدِبُّ جوب أحد أحفاده، أن مؤسس كوكي درس الفقه المالكي عند سَرِينج بِيرْ، الشيخ دِمْبَ فالْ، كما درس هناك أيضا رسالة بن أبي زيد القيرواني (ت 996م) ومختصر الشيخ خليل (ت 776 م). ويرى الشيخ بابكر فالْ أحد أحفاد مؤسس بِيرْ، أن مختار اندمب جوب يعتبرمن أكبر وأبرز الخريجين في مدرسة بِيرْ . يذكر أن العلاقات بين كوكي وبِيرْ، كما يقول شيرنو كاه، نقلا عن سرينج كوكي محمد دبّ جوب، قديمة تعود إلى ما قبل تأسيس كوكي، فأسرة فالْ في بِيرْ هم من ناحية الأم، أجداد يورو أسْتَ (عائشة) كانْ والد سُخْنَهْ دمب فالْ والدة سرينج كوكي بَالّلَ سُخْنَهْ جوب، والد الشيخ ما ندُمْب جوب، والد سرينج كوكي محمد دبُّ جوب. فالعلاقة إذن أسرية وعلمية.
واصل الشيخ مختار ندمب جوب رحلته العلمية، فانتقل من بِيرْ إلى فوتا تورو،حيث مكث فترة ودرس عند الشيخ والمعلم الكبير مَسَمْبَ تيام. ولقد “ورد في وثيقة تاريخية يقول فيها: رب اغفر لشيوخي وشيخي مسَمب تيام بن إبراهيم تيام الذي درسني هذا الكتاب” . ومن فوتا تورو سافر إلى موريتانيا، في قرية نجغينْ (Ndiéguène) واستقر هناك سبع سنوات . تابع في موريتانيا دراسة اللغة العربية نحوا وصرفا، وعزّز قدراته في العلوم الشرعية.
ويعتبر مختار اندمب جوب أول من تخصص في النحو العربي في السنغال. إذ كان التلاميذ، قبله، يكتفون بدراسة الفقه. ومن بلاد شنقيط عاد إلى كجور، واستقر في بِيرْ بغية تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية. فبدأ يُدرّس التلاميذ في مدرسة بِيرْ ومن بينهم مام مور أستَ كانْ فالْ، أحد أبناء مؤسس مدرسة بيرْ. وربما كان من أسباب إقامته في بِيرْ، فيما يرى شيرنو كاه، محاولة اكتساب شيء من علوم الأسرار . ومهما يكن من أمر فقد ظل فترة في بِيرْ، فيما يرجح، قبل عودته إلى مسقط رأسه وَرَكْ نجَاتار،ْ حيث كان التلاميذ يصلون إليه من مختلف الجهات لدراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية.
بيد أنه غادر قريته وَرَكْ، وأسس قربها قرية انجاغينْ، للتعليم فيها قبل العودة إلى مسقط رأسه نتيجة خلافات مع دَمِيلْ ميْسَ تِنْدَا واجْ. ومن وَرَكْ انجاتارْ انتقل إلى جُورُورْ سِيكْ، عند خاله حيث لقي استقبالا حارا. ثم انتفل إلى باوولْ حيث أسس عددا من القرى: كوكي ندِمْب، كوكي دَاكْ، كوكي امِبْ، وكوكي كادْ. ثم غادر كجور، وأسس بلدة كوكي، في منطقة انجامْبُورْ، سماها المدينة المنورة، بمساعدة خاله وبعد أن قام باستخارة. ويقول الشيخ مَدِبُ جوب أحد أحفاده في سبب إنشائه كوكي، إن مختار ندمب جوب اتصل بِدَمِلْ مَيْسَ تِنْدَ وَاجْ فالْ (1719-1748) لإحاطته علما بحاجته الماسة إلى مكان ينتقل إليه، تخلصا مما كان يعانيه من ضغوط ومضايقات الحاكم المحلي، والتي كانت تزداد يوما بعد يوم. فاقتطع له دَمِلْ أرضا واسعة شرقي وَرَكْ طولها 30 كلم وعرضها 15 كلم، إلى حدود منطقة جلوف، أسس فيها بلدة كوكي .
وبلدة كوكي، من حيث التقسيم الإداري، مديرية تابعة لإقليم لوغا، تحيط بها مديرية كَرْ مُمارْ سار شمالا وبِيجِينْ غربا، ودارا جُلُوفْ شرقا، ثم ساغاتا جنوبا. وتبلغ مساحتها 1014 كلم مربعا. وتقع في شرقي مدينة لوغا، العاصمة الإقليمية، وتبعد عنها بحوالي 30 كلم.
وتقطن قرية كوكي قبائل مختلفة: الولوف، والفولانية والمُورْ الخ. ولقد “أطلقت عليها هذه التسمية المشتقة من (كوكيا) وهي بلدة تقع في منطقة غاوُ، بشمال مالي، على ضفاف نهر النيجر حسبما أكد الأنتربولوجي السنغالي شيخ أنت جوب” . في حين يرى البعض الآخر أن الاسم الحقيقي للبلدة هو المدينة المنورة. وجاءت تسمية كوكي، واشتهرت نتيجة الضجة العالية التي كان يسمعها الناس من بعيد (كُوكْ كُوكْ، كُوكْ كُوكْ) آتية من أثر أعمال إسقاط الأشجاروإزالتها وتسويتها استعدادا للسكن والتعليم والعمل وعبادة الله. أوجاء الاسم نتيجة الضجة المنبثقة من تكسيرنواة شجرة نِيوْ، بحثا عن زيوت، يستعملونها في أطعمتهم. أما الحاج روحان امباي فيرى أنه سماها كوكي استذكارا لكوكي امباكول قريته الأصلية . وقد يكون من الصعب قبول رواية الحاج روحان امباي ذلك أن المصادر تؤكد أن مختار اندمب جوب ليس من أصل امباكول، هجرت أسرته إلى المنطقة لطلب العلم، فيما يظهر، وإنما كان أصله بين جُورُورْ سِيكْ ووَرَاكْ انجاتارْ.
هذا، وكثير من القرى في السنغال، في كَجُور وبَوولْ وسالُمْ، تحمل اسم كوكي منها: كوكي كاد، كوكي غُيْ، كوكي دَقارْ، كوكي سالُمْ. ومعظم هذه القرى أسسها خريجو مدرسة مختار ندمب جوب فسموها كوكي تبركا بمركز شيخهم الشهير. إن كوكي بلدة قديمة إذ يعود تأسيسها إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر، حوالي سنة 1725م. وقد أسسها العالم العلامة الشيخ مختار ندمب جوب.
وربما كانت عنده رغبة ملحة في التمكن من العيش في جوٍّ نقي صاف هادئ، حتى تتاح له فرصة القيام بمهمته السامية التي كانت تتمثل في التعليم والتأليف والتربية وإعداد أجيال صالحين للدين والحياة. كان الشيخ مختار اندمب عالما، صادقا مخلصا مهتما بدينه. لذلك لما شرع في التعليم بدأت تأتيه، من كل صوب، أفواج من التلاميذ. ونظرا للمستوى التعليمي الرفيع وجودة التكوين في مركزه الإسلامي، كان العديد من عشاق العلم وهواة المعرفة، يصلون إليه بمختلف طبقاتهم وأجناسهم من نجامْبُور وبَوُول وجُلُوفْ وفوتَا وسالُمْ إلخ. كذلك صارت مدرسته كعبة الدارسين تحتل المرتبة الثانية، في تلك الأيام، بعد مدرسة بير. لذلك كانت كوكي تعتبر بحق، في تلك الأيام، العاصمة العلمية والدينية والثقافية لمنطقة نجامبور..
يتواصل….
رئيس قسم المخطوطات الإسلامية في المعهد الأساسي لإفريقيا السوداء- ايفان.
بارك الله فيكم يا دكتور” جيم عثمان درامي”
فجل شباب اليوم، يجهلون عن تاريخ أجدادهم، ولايستطيعون عد مايساوي أصابع اليد منهم ،
مقال مفيد جدا