
مالي : ماذا بعد استقالة الرئيس ..؟
عبد الرحمن سيسي
حاليا يعتبر ” اسيمي غويتا” رأس الدولة لكونه القائد الانقلابي ، ونائب الرئيس السابق
اتذكر عند تبني الوثيقة الدستورية كثر النقاش حول هذه النقطة ؛ طمأنة العسكر وانصارهم للناس بأنهم لن يتمكنوا من إدارة البلاد ، وان اجبروا الرئيس على الاستقالة . اذن دستوريا لا يمكن لأنصار العسكر تبرير الاعتماد على أي نص ، وسياسيا لن يقبل المجتمع الدولي بهذا الأمر بسهولة .
وحسب مادة 4 من وثيقة المرحلة الانتقالية , فإن طريقة اختيار رئيس المرحلة الانتقالية تكون عبر لجنة مكونة من القوى الوطنية ، فأعتقد بأنه كان يمكن لنائب الرئيس استغلال تلك المادة والحصول على موافقة لجنة اختيار الرئيس لاضفاء نوع من الشرعية على ما يرغب بفعله ، فبدون الشرعية لن يستطيع حكم البلاد بأريحية( ولنا في وضع المجلس الإنتقالي أكبر مثال ) وسيسهل طرده من الحكم في حال تكوين ( حركة ثورية أخرى) اي سيبقى تحت تهديد لانقلاب عسكري آخر ، لكنه اختار الطريقة الأسهل للأسف .
وقرار المحكمة بتعيينه رئيسا لا يستند الى أي نص في الوثيقة ، وهذا خرق ادآخر لوثيقة المرحلة بينما الرئيس “غويتا” برر الانقلاب بسبب حفاظه على الوثيقة وعلى وحدة الجيش .وإذا كانت المحكمة بهذا الشكل فماذا يدلنا على أنها لن تزور نتائج الإنتخابات القادمة.
داخليا هناك شبه موافقة على رئاسته لبقية المرحلة الإنتقالية، ليس لأنه كفء للمنصب ، بل لأن الجميع بات متيقنا بأنهم لن يتركوا شخصا آخر يدير الأمور ، فحتى لو عين رئيس آخر فسيكون “اسيمي غويتا” هو الحاكم ، فالأفضل تسليم الإنتقالية له ليتحمل المسؤولية أمام التاريخ.
أما الاحزاب السياسية فتريد هي سرعة الذهاب الى الانتخابات ، بينما رجال الأعمال فيريدون نظاما حقيقيا منتخبا ، وهذا سيتحقق مع الذهاب الى الانتخابات ، لكن المواطن العادي فينشد هو الأمن والاستقرار ، على أن تحقيق الأمن فصعب المنال ، ولا يمكن في تسعة أشهر الباقية ، غير أن الحصول على استقرار سياسي الى فترة الانتخابات فأمر ضروري جدا ، وهذا في الغالب سيتحقق اذا تم تعيين رئيس توافقي و حكومة وحدة وطنية حقيقية.
اذا استطاع “غويتا” ان يقنع القوى السياسية والمجتمع فسيضطر المجتمع الدولي لقبول إرادة القوى السياسية والمجتمع المدني .
الاشكالية أن الحالة السياسية في غرب إفريقيا لا تسمح للرؤساء ترك عسكري يقود البلاد ، لأن في ذلك تهديدا مباشرا لكراسيهم ، فالوضع السياسي في المنطقة غير مستقر .
تداعيات الانقلاب العسكري اقتصاديا :
١-دوليا :
هناك تخفيف من ردود الفعل هذه المرة ، و كنت قد ذكرت في منشور بأن المجتمع الدولي سيجد نفسه في حرج شديد اذا فرض عقوبات على مالي ، حيث أنه سيتهم بالازدواجية في التعامل مع الدول ، اذ انها لم تحرك ساكنا في انقلاب الذي حدث في تشاد ، وكنت قد ذكرت أيضا بأن المحتمع سيدعم موقف منظمة الايكواس ، كونها الجهة الوحيدة التي يمكنها تبرير العقوبات ، فمجلس الأمن الدولي في قراره لم يفرض عقوبات على مالي ، بل اكتفى بإدانة الانقلاب وإعلان دعمه لجهود منظمة غرب أفريقيا وبعثة الأمم في مالي لايجاد حل للازمة ، برلمان منظمة الفرنكوفونية أعلنت معارضته لفرض اي نوع من العقوبات على البلاد ، بينما في انقلاب ١٨ اغسطس كاد مجلس الامن أن يفرض عقوبات لولا الفيتو الروسي الصيني ، بينما المنظمة الفرنكوفونية كانت قد علقت عضوية مالي فيها ، وهذا تطور مهم جدا في تعامل المنظمات العابرة للقارات مع الانقلابات في القارة .
اما الموقف الأميركي فلم يتغير بل صار اكثر تشددا من ذي قبل ، فلقد اعلن مكتب سكرتارية الدولة عن تعليق مساعداتها العسكرية بينما قامت بتقييد تلك المساعدات في انقلاب ١٨ اغسطس الماضي ، ولعل عاصمة العالم الحر ترى نفسها في موقف محرج حينما ترى بأن القائد الانقلابي تلقى تدريبه في اميركا ، فهي ترى بأن “غويتا” لا يمثل اميركا ، وهذا ما صرح به المتحدث باسم البنتاغون اثناء انقلاب ١٨ اغسطس حينما قال :(ان الانقلاب والتمرد العسكري الذي حصل في مالي فعلة مدانة وغير متناسقة مع التدريب العسكري لأمريكا )
٢- اقليميا :
منظمة غرب ادإفريقيا بروتوكولها واضح جدا في شأن الانقلابات العسكرية ،علاوة على أن الوضع السياسي لا يسمح لرؤساء الدول قبول هذا الأمر هكذا خوفا من عملية الدومينو . والمنظمة ستجتمع الأحد المقبل لاتخاذ قرار ، وستؤثر امور كثيرة على هذا القرار :
١- موقف الأحزاب السياسية و المجتمع المدني من عملية تولى العسكر للحكم :
فلو اعطت الأحزاب السياسية وحركات المجتمع المدني الضوء الأخضر لقرار المحكمة وإبداء موافقتهم على الدخول في الحكومة، فإن المنظمة ستكون مجبرة على تخفيف العقوبات لأنها ستكون كمعارضة لإرادة الشعب ، ولكن السؤال هل سيتمكن نائب على إقناع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ؟ وخاصة في وقت صار إجماع الكلمة امرا شبه مستحيل في دولتنا .
٢- تصرفات الرئيس حيال المنظمة ، واتصالاته الدبلوماسية مع بعض الرؤساء لإقناعهم :
اذا تصرف الرئيس بحنكة ودبلوماسية ، واجرى اتصالات مهمة وتنازلات و إغراءات سيؤثر ايجابا على قرار ، ولكن لو حاول لعب دور البطل الوطني فسيكون عواقبه وخيمة (ولنا في حال امادو هايا سانوغو في ٢٠١٢ أكبر دليل )
فالتنازلات والاغراءات مهمة جدا وخاصة لفرنسا .
٣- موقف القوى العظمى والبعد الاستراتيجي في الانقلاب :
ان كان الانقلاب انقلابا طبيعيا فلن يغير شيئا على مسار البلاد وعلاقته الاستراتيجية مع المحور الغربي فإن العقوبات ستكون خفيفة ، لكن ان كان له تأثير جيواستراتيجي على المنطقة ( كتقارب اكثر مع الروس كما يروجه أنصار العسكر ) ففي هذه الحالة قد تمنع المنظمة حتى عبور الأنهار عبر البلاد.
العقوبات المحتملة وتأثيراتها الاقتصادية :
توقف المساعدات الأمريكية: تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية ضربة قوية للجيش المالي في وقت بدأت الحركات الإرهابية تتلقى خسائر في أرض المعركة .
لكن التأثير الاكبر سيكون عبر منظمة غرب افريقيا : فحسب البنك الدولي فإن السنغال هي اكبر مورد لمالي بنسبة ٢٠ ٪ من واردات مالي اي ما يقارب ٨٩٠ مليون دولار (٤٧٨مليار سيفا ) ، وساحل العاج تأتي في المرتبة الثالثة خلف الصين ، وامام فرنسا والمانيا اللتان تحتلان المرتبة الرابعة والخامسة بنسبة ٩،٦٧٪ ، أي ما يقارب ٤١٩ مليون دولار (٢٢٥ مليار سيفا ) .
أما بخصوص الصادرات فإن بوركينا فاسو تأتي في المرتبة الثالثة بعد جنوب افريقيا وسويسرا بنسبة ٦ ٪ من حجم صادرات البلاد ، أي مايقارب ١١٧ مليون دولار (٦٢ مليار سيفا ) ، وتأتي ساحل العاج في المرتبة الخامسة بعد بنغلادش بنسبة ٤،٩٣٪ ما يقارب ٩٤ مليون دولار (٥٠ مليار سيفا ) .
علاوة على أن مالي تصدر وتستورد عبر دول المنظمة ( سنغال ، توغو ، ساحل العاج ، بنين )
، فحسب الخبير الاقتصادي شيخنا بوناجيم سيسي فإن مالي تستورد ٩٠ ٪ من المنتجات المصنعة المستهلكة في البلاد.
فرض المنظمة عقوبات على مالي يكون بمثابة حصار إقتصادي ، وسيكون حجم الدمار كارثيأ ، واهم المجالات التى ستتأثر بالحصار اكثر هو :
أ- مجال الطاقة : تأتي الهيدروكربونات على رأس قائمة المستوردات لمالي ، حيث اننا نعتمد كليا على الاستيراد في هذا المجال الذي يعتبر كشريان الاقتصاد والمحرك الرئيسي للإقتصاد ، فبدونه سيبقى الجميع في بيوتهم ، وسنبقى بلا كهرباء ولا غاز ، كما ستتوقف الشركات عن الانتاج . وفي انقلاب عام٢٠١٢ عشنا ما حدث من ارتفاع في أسعار الوقود ، حينما فرضت المنظمة العقوبات على البلاد .
ب- المجال النقدي : البنك المركزي المالي مرتبط بالبنك المركزي الرئيسي في سنغال ، وعند فرض عقوبات لن يتمكن البنك المركزي المالي بالقيام بتحويلات مالية ، مما يؤثر على رجال الأعمال والموظفين ، و حركة التجارة، فبدون حركة التجارة فلا سوق ، ورجال الأعمال لن يتمكنوا من عقد صفقات ، كون الأموال محتجزة في البنوك ، وكذلك لن يتمكنوا من سحب رواتبهم في البنوك ، كل هذا يأتي في وقت لم يتعافى فيه الاقتصاد من تأثيرات إضراب النقابة الوطنية للعمال (UNTM).
ج- رفع الأسعار: الغلاء ورفع الأسعار نتيجة مباشرة للعقوبات وستؤدي الى شح المواد الأولية الأساسية ، والأسوأ من ذلك نقص الأدوية والمواد الصحية ، يذكر ان العقوبات التى فرضتها المنظمة بعد انقلاب ١٨ اغسطس الماضي كانت تستثني بعض المجالات الرئيسية ، ولكن في حال لم يستطع العسكر إدارة الأزمة بدهاء ، وتحدوا المنظمة فإن الأخيرة قد لا تستثني أي مجال في المرة هذه .
• طبعا هذا لا يعني بأن مالي هي المتضررة الوحيدة ، فدولة كالسنغال تستفيد بشكل غير طبيعي على الحركة التجارية مع مالي ، اذ يعتبر مالي المستورد الأول لها بنسبة ٢١٪ من صادرات السنغال ، والعقوبات تعني مزيدا من البطالة ، وستؤثر بشكل أساس على قطاعي المواصلات والاسمنت ،في وقت تواجه حكومتها أزمات داخلية وكذلك تعتبر مالي المصدر الرئيسي لساحل العاج في بعض القطاعات كاللحوم . والمتضرر الأول لهذه العقوبات هو المواطن العادي ، وبالذات المتواجدين في الحدود.
اتخيل حالتهم وهم يرون خضرواتهم تتعفن بسبب غلق الحدود .
• واستراتيجيا هذه العقوبات ستؤثر على التكامل الافريقي الذي يعتبر السبب الاساسي في تأسيس المنظمة ، فكأن المنظمة تعمل على تدمير نفسها استراتيجيًا ، طبعا المنظمة محقة في تطبيق قوانينها وأخذ احتياطاتها للحفاظ على الاستقرار السياسي ، لكن الاشكالية تكمن في الازواجية في تطبيق تلكم القوانين حيث ان المنظمة جزء من المسؤولية ففي عام ٢٠١٨ هي التى اقنعت المعارضة على الاعتراف بفوز الرئيس السابق ايبكا ،مقابل وعود واشتراطات ، لكن المنظمة لم تستطع او لم ترغب في الضغط لتنفيذ تلكم المقترحات والاشتراطات ، مما ادى الى تكرار سرقة أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية ، الأمر الذي اعتبر كالسبب الرئيسي للازمة السياسية والدستورية التى نواجهها منذ قرابة عام .
يجب على المنظمة مراجعة بروتوكولها وايجاد طرق اكثر فعالية للحفاظ على الاستقرار السياسي والديموقراطية.
اما القوى الادإقليمية الأخرى كالمغرب والجزائر ستتخذ الحياد كما تعودت ، لأنها لا تحصل على شيء من خلال فرض العقوبات على مالي ، زد على ذلك أن التنافس المغربي الجزائري في مالي سيجعل كلا الطرفين يسعيان الى اظهار الود مع الشعب المالي .، وستحاول دول الشمال الثلاثة :(الجزائر و موريتانيا والمغرب )استغلال هذه الفرصة لتقليل ارتباط مالي بدول المنظمة ، ويمكن للعسكر إقناع هذه الدول لتقديم يد عون في هذه المرحلة الحرجة ، الأمر الذي سيكون كحجر أساس لتبادل تجاري أقوى و امتن ، وان كانت هذه الطرق تواجه بعض التحديات الأمنية وتهديد الجماعات الإرهابية فيمكن التغلب على ذلك من خلال اتخاذ تدابير امنية واستخدام طرق أقل خطورة وان كانت المدة تطول .
لا شك أن خيار عدم فرض العقوبات خيار مستبعد ، لكن هذا ما نتمناه ، ولعل الرؤساء أيضا تعبوا من كثرة الاجتماعات والنقاش حول أزمات مالي المتلاحقة ، فيبقوا أمام الأمر الواقع
نجاح المرحلة ضروري لضمان بقاء دولتنا في الوجود سواء كنا نحب أو نكره سياسات العسكر ، فيجب مساعدتهم لأننا لا نملك جنسية أخرى غير المالية .
حفظ الله العباد والبلاد .



