قيم الحداثة ، وإدارة سوريا الجديدة..
أبوبكر السنوسي
من الصعوبة بمكان تفسير الموقف الذي حصل في سوريا بعدم مصافحة الشرع لوزيرة الخارجيّة الألمانيّة دون اللّجوء إلى استنطاق التّاريخِ ، الذي قد يساعدنا على تفسير هذا الموقف من منظور قيميّ وحداثيّ في نفس الوقت ، والذي أذاب الحاجز الثقافيّ بين الشعوب المختلفة ، وقادها إلى الانفتاح الثقافيّ ، وما يمكن أن يخلفه هذا الموقف سلبا على المستوى الدبلوماسيّ .
الانفتاحُ ضمنَ اتّجاهاتِ الحداثة الّتي زامنت عصرَ التّنويرِ والنّهضة ، والحركة الإصلاحيّة ذات الطّابع المسيحيّ والتي قلّصت النّفوذ المادّي للكنيسة ، وتجاوزت كُلَّ الثّوابتِ الدّينيّة ونسف تقاليد الماضي والأعراف الاجتماعية ، باعتبارها عُقْدة تقف أمام العلاقات الإنسانيّة بطابَعِها المُختلف ، والتي أخذت مسار التطوّر ، وقد اعتمد كلّ من إدغار الأمريكيّ ، وموبسان ورامبوا ، وبودلير ، هذا الاتّجاه إن لم تخني ذاكرتي في تفسير الكون والإنسان والحياة على العقل والشعور والخيال بصورة مادّية أدخلت الإنسان الغربيّ في ظرف مضطرب يهتم بإشباع غرائزه ووصل بهم ذلك حدّ التّأليه…
والعرب عند بدايات الحركات الفكرية الغربية التي رأتْ ضرورة التخلّي عن الماضي وكلّ ما يمت به من صلة في شتى الميادين الحياتيّة ، وأثّر ذلك بشكل إيجابيّ على مستوى تطوّر الفكر الغربيّ ، حاولوا نقل ثقافات الإغريق والرومان وعلومها واكتفوا بقشورها دون معرفة ما فيها من زُيوف فكرية تتعارض قيم الإسلامِ والأخلاق التي دعا إليها ، فأدخل ذلك الإنسان المسلم في اضطراب ثقافيّ فقد الكثير من خصوصياته وذاب في ثقافات وافدة وانساخ الكثير منها…
سوريا دولة لها سيادتها وهي ذات طابَع إسلاميّ ، ومن الدول الإسلاميّة التي تورّمت بمجدها الإسلاميّ الضائع بسبب انهيار كبرى الإمبراطورية الإسلامية ذات انتماء تركيّ وعثماني سنة 1934م ، وقد ظهرت منذ قبيل وفاة الأسد سنة 1999م براعمُ تبرّم الكثير من الجماعات لها هاجسها الدّينيّ ، ضدّ السياسات الجائرة التي كان الأسد يمارسها ، لكن صمود جلها لم يدم ؛ لأنّ المبادئ التي عليها تأسست معظم هذه الجماعات : مبدأ حماية الحقوق ، وتقديس حرمة الدّم …لم تترجم أمام مطالب التّغيير ، إلى جانب الضغط المستمرّ على قياداتها من طرف النّظام ، فأدّى إلى أن أصبحوا موالين للنظام ، ومرّد ذلك هو أنّ القيادات رأت بأنّ نشاط الجماعات الدينيّ يمكن أن يتعرّض للتنكيل والتّضييق في حالة عدم انصياعها لإرادات النظام ورؤيته السّياسيّة…
أكييد ، أنّ صمود الفصائل المسلحّة ضد نظام بشّار الأسد الذي سقط في ظرف حرج ، وحاجة سوريا إلى تشكيل نظامها الإداريّ ووضع دستور جديد يكون له طابع محلّيّ سوريّ ؛ سيدفع الكثير من الدول الغربيّة ودول شرق الأوسط إلى التّسارُعِ في بناء علاقة دبلوماسيّة ، أو تجديدها في ظلّ حكم عانت فيه الدبلوماسيّة السورية خروقا تحتاج إلى خياطتها ، وعانى فيه السكان السوريون شروط الاعتقال السياسي الجائرة ، وهذه كلّها تفرض على السوريين بحث سبل تعزيز علاقاتها مع الدول الأخرى التي ستقودها نحو السّلم الدّاخليّ والاستقرار.
الدّبلوماسيّة نسق مجتمعيّ وسياسيّ اقتضاه تطوّرُ علاقات الشعوب وحاجتها فيما بينها ، خاصّة استحالة استقلالها عن حدود جغرافيّة محاذية تتمتّع بمستوى حضاريّ راق ولها مؤهلاتها العلميّة والفنّيّة ، أدخلتها في طور الإنتاج والصّناعة بشكل مكثّف.
وقد زارت وزيرتا الخارجية الفرنسية والألمانية الإداريّةَ السوريّةَ الجديدةَ التي كان أحمد الشرع قائدها لكن الإدارة وقائدها لم يسلم باليد على الوزيرتين الخارجيتين اللّتين مثّلتا باسم الاتحاد الأوروبيّ بهدف تحرير سوريا ، وتعزيز الاستقرار وإعادة الإعمار والتنمية ، ورغم القواعد الدّبلوماسيّة التي تجمع بين البلدين ، عبّر الشرع عن استماتة بالقيم والأخلاق الإسلاميّة ، وأعاد التأكيد بضرورة احترامها بغض النظر عن الظّروف والسياقات ، ولا شكّ أنّ ما دوّنه الرحالة الغرب وكُتّابهم عبر التاريخ عن الإسلام وعن منظوماتها الأخلاقيّة والإداريّة ، اطّلع عليه جلّ القيادات الإداريّة الغربيّة ، ما يجعلها تأخذ ذلك في عين الاعتبار وتعترفها ، وأعتقد أنّ موقف الشرع تجاه مبعوثتي الاتحاد الأوروبيّ لا يؤثّر سلبا بشكل كبير على مستوى العلاقات الدّبلوماسيّة بين البلدين ، وسيُشير هذا الموقف -بلا شكّ-إلى الحدود والأطر التي لا يمكن تجاوزها ، خاصة عندما تخلّف كبرى المآلات السياسية والاقتصادية السلبية على مستوى مواطني سوريا ومستقبلها الاقتصاديّ.