actualite

قراءة للمشهد السياسي في السنغال، والخيارات الباقية أمام عثمان سونكو زعيم المعارضة ..

جبريل لي السماوي

كلّ الإحتمالات كانت تشير إلى أنّ الرئيس ماكي صال كان مٌصرّا وراغبا في تفعيل “الولاية الثالثة”. وقد مهّد لذلك منذ سنة (2019) حيث كان يراهن على فقهاء القانون في الدولة ليبحثوا له عن تفسيرات سائغة، تعطيه شرعيّة المشاركة دون التورط في النزاع الدستوري، كما جاء بتغييرات مكثفة على مستوى مؤسسة القضاء لأهداف بعيدة المدى ، ومن كان يتابع ويقرأ المشهد السياسي للسنغال، يجد أن ثمّة ارهاصات وعلامات كثيرة تدلّ على أنّه حاول طرائق قدادا، لتحقيق حٌلم المشاركة بالولاية الثالثة. فالخيّاط القانوني له الوزير إسماعيل ماجور فال كان جاهزا لإخراجه من التحدّي الدستوري حول مسألة الولاية الثالثة بكلّ احترافية. ويبدو أن الرئيس صال انسحب عن فكرة الترشّح للولاية الثالثة لأسباب كثيرة، وتأقلما مع الواقع السياسي الذي اصطدم به. فالسياسة لا تنصاغ خلف حسابات الرجل السياسي فحسب ، وليست ما يراد تطبيقها من الأفكار والنظريات، وإنما هي واقع تفرضه الظروف والمعطيات على الزعيم السياسي، فالسياق الزمني يلعب دوره في مسارات السياسة، بل هو المدار الذي يتمحور حوله الأداء السياسي . والمعادلة هنا هي : أليس التّراجع عن حلم الدخول في معمعة الولاية الثالثة رغم تواجد فٌرص دستورية للبقاء، هو الفاتورة الغالية التي لا يتوانى السيد صال عن دفعها مقابل سحب سونكو معه عن المشهد ، حيث يصيران على هامش النزاع السياسي في البلاد ، مع العلم أنّ الرئيس صال لا يعرف التراجع عن القرارات السياسية مجانا جٌزافًا .

أحداث مارس (2021) وما سقطت فيها من الأرواح البريئة، والاضطربات الأخيرة في يونيو (2023) وما حلّفتها من الدمار والخراب، والخدش بهيبة الدولة، والضغوطات الخارجية التي تنهال عليه بين الفينة والأخرى، كل هذه الأسباب شاركت في قطع إيقاع موسيقى الولاية الثالثة. ورغم أنّ الانسحاب عن فكرة الترشح كان تحت ضغط شديد إلا أنّ إعلانه كشكل رمزي أمام الاعلام، يمثّل نجاحا ديمقراطيا باهرا، ووقفة تاريخية تستحقّ الإشادة والتقدير . حيث أنّ السيد صال استطاع بذلك تلميع الصورة الديمقراطية على مستوى المنطقة، بل على المستوى الدولي بعد سنوات من تشوه الوجه الصافي للديمقراطية السنغالية، إذْ أنّ هذا السّلوك السياسي يكاد يكون من المستحيلات السبعة عند النخبة السياسية الأفارقة
الإشكالية التي تفوح في الأفق هي : هل مجرّد الاعلان عن الانسحاب من فكرة الولاية الثالثة فيه ضمان على أنّ السيد صال لا يترشّح إطلاقا في الانتخابات 2024 ؟ أو أنّ المشهد السياسي الذي سيفرضه السياق الزمني مستقبلا يٌخبئ للمراقبين مفاجآت، و سيناريوهات سياسية أخرى ؟
على كلّ حال لا يوجد مصطلح الاستحالة في قاموس السياسة. مع العلم أن صال يملك نَفَسًا طويلا عند خوض المناورات السياسية مع خصومه. ويبدو أنّ السيد سال تعمّد على المماطلة قبل إعلان نيته بخصوص الترشح للولاية الثالثة، فلو أعلنه مبكرا ، ربّما يحدث الانقسام الداخلي على مستوى حزبه وائتلاف BBY . ( معا لتحقيق أمل موحد ) وهذا بحدّ ذاته يمثل حنكة سياسية وفطنة استراتيجية، والانضباط التكتيكي في إدارة المناورة السياسية.
ما مستقبل زعيم المعارضة عثمان سونكو ؟
إلى هذه اللحظة من عٌمْر المشهد السياسي للسنغال لا يوجد مستقبل واضح للسيد عثمان سونكو. فحتى فرنسا مازالت تحاول قراءة آرائه لأخيرة من خلال الاستطلاعات الإعلامية، لتستوعب خطابه، ومحاولة الامساك بخيوط مستقبله السياسي الغامض بالنسبة لهم . وعلى ذلك إما يورّطونه للمزيد من النقمة السياسية، أو يحاولون اغتيال شيء من قناعاته ومشروعه السياسي، كتمهيد للحوار السياسي معه، لمحاولة الوصول إلى مخارج قانونية له . وكل ذلك تفعله فرنسا لأجل الحفاظ على مصالح باريس الاقتصادية أولا ، وعلى المستوى السياسي ثانيا. فالقاعدة الجماهيرية التي يتحصّن بها، ويٌعوّل عليها سونكو تضعه في نقطة القوّة إلى حدّ ما، كما أن معضلة التحدّي القانوني مع الدولة، (النزاع القضائي الذي يضع سجله الجنائي على المحك ) يمثل سلخ أجنحته السياسية مباشرة .

والآن أمام سونكو خياران هما :
١- مواصلة تطبيق نظرية قضّ العظام ( Gatsa Gatsa) والرهان على قاعدته الجماهيرية، مع المغامرة الغامضة في هذا الطريق السياسي الذي يمثّل الهلاك أو البقاء ، مع العلم أن الرهان على الشعب السنغالي الذي لم ينضج بعد على فهم أبجديات المقاومة، ورؤوس أقلام الثورة؛ رهان على ورقة هشّة .
٢- الحوار السياسي والمفاوضة مع النظام الحاكم الذي وضعه في كمين قضائي ، لمحاولة الوصول إلى مخارج قانونية له. فالحوار السياسي يكون بتبادل للأفكار بين الخصوم السياسيين، وذلك من أجل خلق فهم مشترك في ما بينهم حول المشكلات المطروحة والوصول إلى حلول وسط من شأنها أن تحقق مصالحة سياسية شاملة. وفي عمليات الحوار الناجحة، تخرج عادة جميع الأطراف فائزة. ويتطلب الحوار الناجح توفر جو آمن في البداية، يسمح لكل الأطراف بمشاركة أفكارهم دون قيد أو شرط، بما في ذلك فرض الرقابة الذاتية، ولخلق هذه المساحة الآمنة لا بد من توفر قواعد إجرائية واضحة يلتزم بها الجميع، وقدر كبير من الثقة المتبادلة بين الأطراف، فضلا عن وجود أشخاص محايدين يقومون بدور الوسيط النزيه في إدارة الحوار..

شخصيا عندي إنطباع مفاده أنّ سونكو “المثالي “لن يحاور ماكي صال ، لكن سونكو السياسي الذي يبحث عن مخارج قانونية وأهداف استراتيجية يمكن أن يحاور لأجل الخروج من الخناق السياسي، والمستحيل لم يكن يوما سمة من سمات السياسة مطلقا، فحتى نلسون مانديلا جلس على طاولة المفاوضات للخروج من الخناق السياسي بعد سنوات من تغذية الثورة بالأرواح والدّماء، والنقمة داخل غياهب السجون . والسياسة مزيج بين الحرب في الميدان، والجلوس على طاولة الحوار. فالحرب السياسية يفتح للزعيم السياسي بابًا واحدا فقط، والحوار السياسي يتمثل في الدخول من أبواب متفرقة، وكلّ باب يعتبر معبرا لكسب أهداف استراتيجية…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى