قراءة تربوية في نوع تقويم شهادة با كلوريا السنغالية
دكتور محمد فاضل كان
من المعلوم بداهة لدى علماء التربية أن النشاط التعليمي الناجح يعتمد أساسا على مسطرة تقويمية واضحة، ذات وظائف تربوية هادفة. فالتقويم التربوي لا ينحصر فقط في قياس المعلومات مع ترقب الاجترار ورد البضاعة إلى أهلها، بل التقويم التربوي عملية مقننة تخضع لوظائف توجيهية وأهداف تربوية نبيلة، والتي تتجاوب مع حرمة الانسان بعيدا كل البعد عن المساس بكرامته أو الحط من شانه.
فيتبادر في الذهن هنا عند تقويم باكالوريا طرح الأسئلة الآتية: هل هذا التقويم المشاهد سنة تلو الأخرى لهذه الشهادة الموروثة من نابليون بونابارت منذ عام 1808 تحافظ على التعزيز البيداغوجي المنشود في التقويم؟ وهل هذا النوع من التقويم المتبع يندرج تحت الأنماط المتنافسة للحصول على الجودة التعليمية في النظم التربوية؟ أم أن هذا النوع الموروث، أكله منه الدهر وشرب؟ أم أن النظام التربوي السنغالي هو الذي يقود إلى بؤرة التعقيد والتعصيب بله الترسيب في مسار تقويمها لهذه الشهادة؟ أو أن طبيعة الشهادة تقتضي وضع أشواك معوقة في طريق المتعلم بدل تفعيل قدراته الدافعية صوب المدرسة والرغبة في التعلم؟
قد لا أطيل أخي الكريم في سرد أنواع التقويم ولا الخوض في وظائفها بهذه العجالة، ولكن أود فقط أن ألفت النظر إلى حقوق منتهكة واعتبارات مسلوبة خضم جو يسوده الظلم المستدام والسلطوية العارمة على المتعلم.
كما ينبغي الإشارة إلى أن نماذج التقويم التربوية السائدة مهما اختلفت في وظائفها المتوخاة أوفي أهدافها المنشودة، فإنها تتفق على شيء واحد ، الآن وهو البحث عن سبل النجاح ومآرب التوجيه والتكوين لا التعقيد والترسيب.
والملاحظ في تقويم بكالوريا عكس ذلك. ففي كل نهاية سنة دراسية نشاهد حالات مريرة وجنايات فاسدة ترتكب في حق التلميذ. فهذه الخاطرة طالما أقض مضجعي وأرقتني ليالي ذوات العدد، فكل سنة كنت أنتظر وأترقب تحسين الحالة، ومع مرور الزمن والوضع يتكرر وكأن الضغط على التلميذ راح سيد الموقف فأصبح داء عضالا. فنرى في هذه الأيام ( أيام خوض معركة بكالوريا) تلاميذ مرتبكين، وآخرين يرتعشون، ساهرين ليالي، مشائين النهار، حاملين كتبهم ودفاترهم بأيديهم، وهم يعدون العدة لذلك اليوم المشهود: يوم الامتحان الذي’ يكرم فيه المرء أو يهان. فكم تلميذ يستعد بكالوريا وكأن على رأسه طير، يعاني ضغطا اجتماعيا وسيكولوجيا وسط جو مكفهر. كل ينتظر ويراقب. وشر البلية ما يضحك: أن شابا {ميكانيكيا} شارك الملأ في سماع نتائج امتحان بكالوريا وسط جمهور غفير من التلاميذ فاصطدم بالعويل والبكاء بين من يرتمي على الأرض ومن يدس رأسه في التراب، فإذا هو وسط هذه الحالة المدهشة ففغر فاه: هاه الحمد لله الذي بنعمته لم أدخل المدرسة. وإن كان صاحبنا في مدرسة من النوع الآخر وهو لا يدري.
والذي أريد أن ألفت النظر هنا، هو ذالك المشهد المرعب، البعيد كل البعد عن التقويم التربوي، ذات الوظائف الإنسانية الكريمة، والتحفيزات التربوية الناجعة، دعني أسجل هنا بعض الملاحظات عبر الحيثيات الآتية:
1-الحيثية النوعية، أي نوع التقويم
نعلم يقينا في البساط التربوي أن العملية التعليمية التعلمية تستند جوهريا على سياسة تقويمية عادلة، والشيء بالشيء يذكر أن هذا النوع من التقويم التجميعي للمعلومات المدروسة، غير مساير للركب في دنيا العلوم التربوية. كيف يعقل أن يدرس التلميذ طيلة ُثمانية أشهر فيختبر ثمانين بالمائة في غضون أربعة أو خمسة أيام على الأكثر بلا مراعاة المعايير الوظيفية للتقويم. هذا الذي يدفع الكثير من نقاد هدا النوع {التقويم التقليدي، التجميعي} إلى وصفه بعدم إعطاء التقويم الشمولية اللازمة أو الإنسانية المصحوبة للعملية التقويمية بدءا وختما. فإن تقويم بكالوريا بهذا النسيج المعمول به الآن في النظام التربوي يعد ممارسة غير تربوية لا تساهم البتة في تثبيت الكفاءات ولا في ترسيخ المعلومات، رغم كونننا في طور التدريس والمقاربة بالكفايات. فالتلميذ يحفظ فينسى عقب هذا التقويم لا محالة. لأن هذا التقويم التقليدي يدفع إلى الاجترار دون أدنى اهتمام للجوانب المهاراتية الأخرى.
2-الحيثية الإعلانية، أو إفشاء نتيجة التلميذ
مما يندى له الجبين وتشمئز منه النفوس، طريقة إعلان نتائج بكالوريا.
أخي العزيز إن من اللوازم المحفوفة لعملية التقويم الفعال مراعاة الحقوق الفردية للذي يجرى له التقويم مع المحافظة على سرية النتيجة. فالنتيجة النهائية والدرجة المحصولة ملك للتلميذ وسر بينه وبين اللجنة المتداولة ولا يحق حتى للجنة إفشاء نتيجته أمام الملأ دون إذنه، ناهيك عن قراءة النتائج علنا عبر وسائل الإعلام. تصور معي الانعكاسات النفسية والاجتماعية التي قد تتمخض من هذا الفوضى الدخيل في ماهية التقويم الفعال.
- 3-الحيثية السياحية: السياحة التربوية والكلفة المادية
قد لا يشاطرني الكثير من الزملاء المدرسين في هذه النقطة رأيا وخاصة الذين يعشقون السياحة وحب التنقل والاكتشاف، فهؤلاء لا ذنب لهم، فهم مسيرون. فيخطر ببالي هنا انطباعات، - أولها: الاستخفاف عن مهنية المدرس وكأن الموضوعية لا تصحبه إلا وهو خارج معهده. علما بان الذي يمارس مهنة التدريس يجب أن يتحلى بالموضوعية الدائمة والسرية المهنية التامة في ممارسة المهنة، فلماذا إذن هذه الأموال الطائلة المنفقة لهذه للسياحة {التربوية} المكلفة التي طالما شكل تأخر مردوديتها المادية زعزعة النظام التربوي؟
4-الحيثية التدريبية: قلة التدريبات أو تغييبها صوب آليات التقويم
صدق المناطقة ولله درهم” الحكم على الشيء فرع عن تصوره” وفاقد الشيء لا يعطيه. فالنظام التعليمي السنغالي الحالي لا يعطي أهمية كبيرة شق “التقويم” الذي كان يجب أن يأخذ نصيب الأسد في العملية التعليمية التعلمية بل هو العمود الفقري لجودة النظام التربوي. فإن ضآلة بضاعة المقوم في التقويم أو فقدانه ينجره إلى إصدار قرارات ذات عواقب وخيمية في مستقبل التلميذ.
5-الحيثية الإصلاحية: غياب سياسة إصلاحية تقويمية
الاصلاح التقويمي المنشود هو تلك العملية التربوية المنسقة والمتكاملة التي تلبي حاجيات التلميذ وتعترف بجهوده للسعي به إلى وضعه في ظروف ملائمة للتجاوب مع الأهداف المرسومة للكفاءات المنتظرة. وللأسف الشديد، على الرغم من المكانة الواضحة والدور الذي يمكن أن يؤديه التقويم التربوي في تحسين العملية التعليمية، إلا أنه يلاحظ نقص في توظيف الإمكانات أو محدودية استخداماته في باكالوريا. ونأمل مستقبلا إيجاد خطط متطورة للتقويم تتكامل مع المسعى التعليمي في جوانبه كافة. فلم يعد في وقتنا الراهن الاعتماد على الاختبارات الورقية ولا الأقلام التقليدية لمدة زمنية قصيرة، في جو شبيه بالمعركة، يسوده الضغط على أنها الوسيلة الوحيدة لتحديد تقدم الطلاب العلمي وتحصيلهم المعرفي.
أخيرا وليس آخرا:
ينتظر من الجهات المعنية تكثيف الجهود في تنمية الموارد البشرية اللازمة للتقويم وإنشاء وحدات وإدارات عامة للقياس والتقويم التربوي مع عقد مؤتمرات ودورات تدريبية للمدرسين حيث تتواكب والمستجدات التربوية وتأطر سيرورة العملية التقويمية لإيجاد جودة في نظامنا التربوي السنغالي.