
في ظلال الحروف
المختار السالم
دخلتُ ذاتَ يوم حديقةَ وَرْد.
كان شيئاً مُدْهِشاً أن أرى تلك الكائناتِ التي قرأتُ عنها في الأشعار والسير والحكاياتِ.. بعد مشاهدات أيام الصبا في “لكراره” التي كانت رمز الخصب قبل أن يمسحَ الجَفافُ وجه الديارِ تاركاً كل شيء خراباً فلا عشب ولا أشجار ولا زرع ولا سمن ولا قديد… لا شيء إلا بوم الخراب الناعب في سهول الأرضِ وتلالها، إنه القحطُ في تجلياتهِ الظاهرة والباطنةِ… حتى نظرات النَّاس صدئت وهي تتبرجُ لأفق عقيم، وعلا أرواحهم سأمٌ رانَ برنينهِ القاسي الموحشِ فحجب الشهب وأذابَ العصبَ.. ولولا ذاكرة مصرة على الانتصار لما ترنم لسان بأشعار تفلَّ الحقبَ ولا سرت أنفاس تستودع بقية اللحنِ عودَ خشب.
كان آخر منظر خَـزَّنَـتْهُ ذاكرتي وأنا في البيداءِ عندما سرتُ في سبخة “لخشيم” وقد تضاعف بياضها لكثرة عظام الحيوانات النافقةِ فيها.. لا أعرف لماذا اختارتْ تلك الحيوانات المنهكة عناء الوصول إلى السباخ لتلفظ أنفاسها الأخيرةِ على مرأى ومتكأ من الملحِ!
أما الآن وأنا أدلفُ بين ممراتِ واحدة من أجمل حدائق الزهور في الشرق العربي؛ فلم أكن لأرتاب في أنَّ الليلك والريحان والياسمين “تُـفكر كلَّ ليل”.
ففي ذلك الزفاف الأسطُوريِّ للنَّسيم على المقصلةِ يتجلى بتلقائية فذة إسراف الوردةِ في تأثيث الأفقِ عِطْراً.
لا تُـزفُّ الوردة إلا بقطفها، ويدي المملوءة ورْداً تشعر بألطف حمولة، خاصة على من تعود حمل القربِ ونزح الآبار ورفع الدلاءِ قبل أن يمتهنَ دحرجة براميل الماء للأهلِ والمعارفِ في حي “السطارة”.
ثمل أنفي من رائحة العطرِ.. “العطر هو وليُّ أمر الوردة ووكيلها”، أقول للبستانيِّ، الذي يولي الشعراء “عناية خاصة” لأنهم “أول من أدرك قيمة الورد والزهر من بين الخلق”. على حد تعبيرهِ.
أخبرتهُ أنَّني لم أدخل حديقة ورد قبل هذه، وأن عهدي بالزهور البريةِ في بلادي كان أيام الطفولة، ولكنَّ في بلادي جزيرة تحلق فيها ملايين الطيور على مدار الساعة.
بدا من ملامحه أنه لا يصدقني، فأنا “أسَمِّي كلَّ زهرة باسمها وهذا لا يصح لغير العارف المختص.. كما أنَّ بلاد المليون شاعر لا يمكن أن تكون خالية من حديقة زهور”. يردُّ الرجل بلغة وردية لطيفة.
أما الأولى فقد عرفتُ أسماءَ الزهور من الشِّعر الجاهليِّ، وعرفتُ أشكالَها من الصور والأفلامِ.
وأما الثانية، وفي هذه “مربط الحمار”، فلستُ بالنَّاقدِ المشبَّع بالبالونيةِ حتى أكون مُولعاً بسفك دماءِ الأرقامِ وتحطيمِ أضلاعِها وجماجمها.
لقد تزايد الجمهور وكثر اللغط قليلاً في تلك الحديقة الغناء، التي “يُـنَظِّرُ” فيها “راع سابق” لأمورِ لا هي من شأنِ الشُّويْـهَةِ والبَعَيرِ.
أردتُ أن أغادر تلك الحديقة بنظرة زهرية عن مجتمعي وبلدي… قلت “لقد أغنتها نِساؤُنا عن النظرِ إلى الزُّهور”. ضحك الحضور فيما قال البستانيّ: “أما هذه فأقْبَلُها منكِ”.
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.