في ظلال الحروف
المختار السالم
أعرف أن نساء نواكشوط لا يصدقِّـنَ كل ما يقوله الشعراءُ، ولكن الميزة الأبرز في الشعراء أنهم لا يخلقونَ المشاكل عندما لا يصدقهم الناسُ، كما أنهم لم يتوقفوا يوما عن القولِ في انتظارِ منصت، دونَ تحرُّفٍ لمعنى بَقَـريّ، تجاوزه “الطائي” بموالاةِ نسيج القوافي دون اعتبارات بيطرية لفهم الشعر.
وأنا على مذهبهِ، أقررُ جازماً، دون لفٍّ، أنَّ ما لا يستوجب السمع لا يستوجب الإنصات!
قلتُ لشَاعرة نواكشوطية، ذات مساء حزيرانيٍّ، ونحن ننقح قصائد استُـؤجرنا على تمهيد الطريقِ لها حتى لا تتعثَّـر عندما “تمشي” بين العامةِ: “لقد أتعبني هذا العمل، وأحسّ بـرغبة في المشي..
إنَّ من أثْـــرى كُنوز الإنسانِ، كنزٌ اسْمُه التَّسكع.. ومغبون من لم يستخرج لنفسهِ وقتاً يترك الخطى فيه تقودُ أقدامَهُ حتى يستجمع الرأس وهو في الهواء الـطلقِ خرائب المعنى وآثامهِ، خطاياه ومتاباتهِ، حمقه وفطنته.. فلا أحد يشبه خطاهُ وقد يَتَـشَبَّه عليهِ حصادُ بذرها على الأديمِ فكيف على رممٍ تصدأُ بالحمقِ!”.
وقلت، أيتها الشاعرة، نحنُ نُـزوِّر الشّعر، الذي يُـفترضُ أنهُ البضاعة الوحيدة غير القابلة للتزوير.. علينا أن نتوقَّـف عن رفادةِ المعنى بحمولتهِ من الفقاعاتِ!”.
قالت “كيف أصدِّقـكَ ولم يعد الفجر منكَ ببعيد!”، فقلت لها “وكم أشرق الفجر على غير فجر.. لعلك تذكرين حين كنتُ أتَـعَـنْـتَـرُ على ذلك الرفيقِ في خليتنا السريةِ، وحين كنتُ أستنهضُ همَّتكم بتلك الخطاباتِ الناريةِ التي كانت تعصف برمادِ أعصابكم، وكنت أجعلكم تردِّدُون خلفي في نهايةِ كلِّ “حصة”: “إن المسيرَ قد لا يكون كافياً في بعض الظُّروفِ، بل إنَّ الحقيقةَ أن أحداً لن يصل ما لم يدفع الطريق ذاتها إلى أن تَسير”.
قالت “أما تروي لي أشياء.. أي أشياء.. عن زمن الطفولةِ حيث لم يكن يكتب عليك شيء؟”. قلت “إلا الحانوتيّ، فقد كانَ يكتب عليَّ ما أخذَتُ وما لم آخذ.. حاله حال بعضِ نقاد الشِّعرِ”… على كلِّ حالٍ كان زمناً يتكِئ الصمتُ على روحهِ الخَلَّابةِ كالسكينِ اللّاهثِ في شرائحِ المَشْويِّ”.
ما لم أخبرها بهِ، أنَّ من أيام ذلك الزمنِ، اليومُ الذي سمعْـتُ فيهِ شهيقَ الأفولِ يحتضرُ بروعة مدهشة كما تحتضرُ الوردةُ.. ولقد رأيتُ السبيلَ في البحرِ، وحاولت أن أقيمُ ما يريد أن ينقضَّ وقد لا يتعرفُ على ظلهِ الجدار فكيف بكـنْزِه.. ثمَّ هربتُ بعد منتصفِ الليل لأغنِّي في الغدِ لامرأةٍ مجنونة تجوبُ البراري بحثاً عن “أخٍ لا يُـشبه العَـلَمَ الذي في رأسهِ نار”، نصحْتُ، تلكَ المرأة، بقطافِ رواسب الظلالِ في الطريق إلى “وادي الزرعِ”، فأشارت إلى الريح التي تعصف بسنابل الحقلِ، أجبتُها بالقول “إنَّ ارتجافَ السَّنابلِ يجعل الأودَ يستقيم”.
على الهضباتِ التي ارتفعت بالشَّدْوِ، ناظرْتُ النَّجومَ التي تستهلُّ يَـمَامَةَ القَلبِ، وتصالحْتُ مع روح الحقلِ وجِـوارهِ، وانتصفْتُ للهديلِ بعد أنْ لَــوَّثَهُ الغُولُ بمُخَاطِ القيظِ.. فيا بنت القافيةِ “ألا باليبابِ، ألا بالخضاب، حتى تأمنني المُدُنُ على أسوارها أو تُصدِّقَـني القَصَائدُ على قُمْصَانِها