
في ظلال الحروف
المختار السالم
يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تبحثْ على أثري عن قصص الحُداة وثيماتهم في سردياتِ اللّيل الطّفل؛ فأنت يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تعلم معنى أن يصعد الدّخان لتنضج الأمورُ في الأسفل، ولا معنى أن تهبطُ السيولُ لتروي الحفرَ والوديان!
أنت يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تعلم أن السّائِرَ المتحدّي تدهشه المنحنياتُ أكثرَ من الدروب البُـورِ! ولو خيِّـرت الوردةُ لفضلَّتْ أن تنبت في حقل الشّوكِ المفتوح على أن تنبت داخل زُجاجةٍ.
أنت يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تفقَهُ أن يصبح المرءُ راعيا؛ وأن يمشي بغنِمِه على التلالِ الجرداء وبين السباخِ البيضاء، التي تعكسُ فيها فصُوصُ الملح أشعّةَ الشّمس كما لو أنّها شظايا مرايا بابليةِ، أو كما لو أنّها ثنايا حسناء تبتسم لمكنون خاطرِ. أنت يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تعلم ما “معنى المعنى” إذا احْـدَوْدَبَ الأصيلُ في الأفق، وارتفعَت مأمأةُ ماشيتكَ على غفلة من نَــزِيبِ ظبيٍ يُـدَلِّلُ أنثاهُ.
أنت يا سَاجِرَ الرّيْحِ لا تعلم معنى أن يحلّ بك الليلُ بمكان لا دليل فيه على حياة سِواك.. ولأنَّ النَّار بداخل كلِّ عود تبدأ إشعالَها باحتكاكِ عودين وتخرج مواعين الشّاي وقد تَشَابَهَ الجمرُ مع عيون القطط التي تتفرّج عليك من مسافةٍ استطلاعيةٍ في ظلمةِ الخَلاء المُـوْحِشِ.. ثم تصُبّ الشَّاي وتبدأ إنشادَ قصائد لكليب وابن أخته امرؤ القيس، فأخرى لكعب وعمَّـتـيْـه: سلمَى والخنساء وأخيهِ بجير ووالده زهير، فقصائد لغيلان فالبحتري فالمعريّ فابن الطلبة… وغيرها من قصائدٍ “تُـفَـنْجِـنُ” قبل أن “تُزَوْبِعَ” ذاكرتَـك مختصراً لحضارةٍ تمتَـدُّ في شرايينِ البحار الملوّنةِ بين ضِفافِ الدهر عندما تُوسِعُ الخيلُ للخيل وتحنِّنُ النُّوق للنُّوق وتصدحُ البلابلُ على بيْضها.
ثمَّ تشرب الماء وتنامُ، فليس في القطيعِ من بياض إلا جلده!
النَّوم على الرّبى الجرداء نعمة لمن اعتاد الأرْضَ الخَـشِنَةَ، وما أن تغطَّ في نومٍ عميقٍ حتّى يُـزهر ما “تَـكَوْمَنَ” من أحلامك.. فهذه عطورُ ساحرات نينوى رشّهنَّ الواعظُ على الهَرَمِ، وهذه وصايا شهرزاد على نصيفِ عابراتِ جسْر الرصافةِ، وأمامَ “بيت الحكمةِ” حارسٌ يحمل إبريقَ الخلدِ… وثم شعراء يمدحون الشِّواءَ الأشْخَمَ، وآخرون يشتمونَ القبائلَ وصنيع المدائن.. ثمَّ ترنيمٌ خُماسيٌّ في خطى زريابٍ إلى الأندلس، فطيورٌ كثيرةٌ تحلّقُ فوق الجبلِ الذي وصفتهُ “مُغَنِّـيةُ” آدرارية، فأسماكٌ تعبثُ في “حوض آركين”، فدراعة مرقّعة عثرتَ عليها عند “آتيلة الكمائن”..
هيَّا استيقظْ فهذا صوتِ الرّعدِ وليس بالأفق برْقٌ ولا غيمٌ.. إنَّ هذه أرض الجنِّ مسكونة بنِذَارَةِ المسخِ؛ أرض الغُـولِ والعفاريتِ والأشْباحِ الشّرّيرَةِ.. أشعل النار يخل لكَ وجهك.. وتصح على جُنونٍ أقلَّ.. وأنتَ على هذه الحالِ فكّرْ برهانك للقومِ.. فالتاريخُ أجبِـرَ على مُسَلَّمَة أنَّ الشّاعر العربيّ الجاهليَّ شاعر البيئة القاحلةِ!.. بينما هو ذلك الشاعر الذي عرَّفنا بأنواع الزُّهور والورودِ والنباتات والأشجارِ والثمارِ والغدرانِ والمصبّات والسُّيولِ وآلاف الحيواناتِ من طائرةٍ وزاحفة وماشية… فكيفَ لم يعرف الخِصْبَ والطبيعةَ المترفةَ.. في الصورةِ النمطيةِ شيءٌ ما. فالشِّعر الجاهليُّ شعرٌ متعددُ البيئاتِ، والصحراءُ هذه التي توصفُ بالفراغ، هي متربِّصَة دائمة على ذمّة الفُصُولِ.
استيقظْ.. فغداً؛ سأفحمُ منافسي في “راحلة” لا أشاركها إلا في موسم الخريفِ حيثُ تختلطُ مضاربُ الأحياء.
فلا تقلْ إنَّ مسقطَ رأْسِ القصيدة العربية كان بصحراء ساجرة خالية.. فما عُرف فيها جلمود صخر إلا الذي حَطّه السّيلُ من علٍ، وحدّثْ ولا حرج عن النّخِيلِ والخُزامى والنوار والياسمينِ.. ثمَّ قلْ إنَّ بدويا في “آخر البرزخ” كانَ أعلمَ النّاسِ بأشعارهم ولسانهم. وكانَ يُـدرّسُني وهو يفترشُ الحَصَى وأنا أنزعُ الشَّوكَ من قدميهِ.
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.