CultureInternational

رحيل الدكتور عبد اللهَ نصيف

الدكتور عبدالله عمر نصيف… رحيلُ شخصيةٍ صنعت حضورًا حضاريًّا وإنسانيًّا للمسلمين حول العالم

د. فايد محمد سعيد

يرحل بعض الناس فتُغلق ملفات حياتهم بانتهاء أعمارهم، ويرحل آخرون فتبدأ سيرتهم بعد رحيلهم، لأن آثارهم بقيت حيّة في وجدان الناس ومؤسساتهم ومواقفهم. ومن هذا الصنف الكريم كان الدكتور عبدالله بن عمر نصيف؛ رجلًا عمل في صمت، وخدم في هدوء، وبذل من عمره ما جعله شاهدًا على مرحلة مهمة من تاريخ حضور المسلمين في العالم المعاصر، خاصة في المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون كأقليات دينية وثقافية.

وُلد في مكة المكرمة ونشأ في بيئة علمية راسخة، مما هيّأه للجمع بين الرؤية الأكاديمية والعمل المؤسسي العام. تولّى مناصب متعددة ترك فيها أثرًا واضحًا، من أبرزها:

  • الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (1983–1993م)
  • نائب رئيس مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية
  • أستاذ بكلية العلوم في جامعة الملك عبدالعزيز
  • رئيس الجمعية الجغرافية السعودية

لكن سيرة الدكتور عبدالله نصيف لا تختزل في المناصب، لأن ما بقي منه بعد رحيله ليس الألقاب بقدر ما هو الأثر الإنساني الرفيع الذي تركه في قلوب المجتمعات المسلمة حول العالم. فقد كان حضوره في آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكيتين حضور الأب المساند لا المسؤول الرسمي؛ يأتي لا ليُلقي خطابًا ثم ينصرف، بل ليستمع إلى الناس، ويزور مساجدهم الناشئة، ويدعم مراكزهم التعليمية، ويمنحهم الشعور بأنهم جزء أصيل من الأمة لا هامشًا تابعًا لها.

لقد أدرك مبكرًا أن المسلم الذي يعيش في الغرب أو في البيئات غير المسلمة يحتاج إلى من يفهم واقعه، لا من يتحدث إليه من بعيد. لذلك لم يكن خطابه دعويًّا مجردًا، بل كان خطابًا تواصليًّا راشدًا، يجمع بين الثبات على الهوية واحترام خصوصية المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون، فيُشعرهم بكرامتهم الدينية ويحثّهم في الوقت نفسه على أن يكونوا جسورًا للخير والسَّلام حيثما كانوا.

وأنا — كاتب هذه السطور، وأحد من يعيشون في الغرب منذ سنوات طويلة — أشهد أن كثيرًا من المساجد والمراكز التي نقف داخلها اليوم ونقيم فيها عباداتنا وحلقات العلم لأولادنا، إنما تأسست أو استقرت أو قويت بفضل مبادرات صادقة من رجالٍ أمثال الدكتور عبدالله نصيف. رجالٍ لم يطلبوا لأنفسهم شهرة ولا ظهورًا إعلاميًّا، بل كانوا يؤمنون بأن أعظم الأعمال هي تلك التي يُذكر أثرها ولا تُذكر أسماؤها.

وما أحوج المجتمعات المسلمة — خاصة في بلاد الأقليات — إلى شخصيات تمتلك الحكمة والرفق، وتعرف كيف تجمع بين الثبات على القيم وحسن التواصل مع الآخرين بلغة السلام والرحمة. فمثل هذه النماذج تؤكد أن الإسلام ليس خطاب مواجهة أو انعزال، بل رسالة بناء وتعاون واحترام متبادل.

برحيل الدكتور عبدالله عمر نصيف، لا تفقد الأمة مسؤولًا إداريًّا فحسب، بل تفقد نموذجًا من أرقى نماذج القيادة الهادئة المؤثرة؛ القيادة التي تُشعر الناس بالأمان، وتبني دون ضجيج، وتُقرّب بين القلوب بدل أن تُثير الخلافات.

نسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء، وأن يُخلِف الأمة في فقده بخير، ويهيّئ لها من يسير على نهجه في الإخلاص والاتزان والبصيرة.

وإنا لله وإنا إليه راجعون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫27 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى