actualite

ذكرى رحيل العلامة المحقق عبد السلام هارون

د. محمد موسى كمارا

في مثل هذا اليومِ سنة 1988م؛ انعقدت الألسنة، وهمعت العبرات، وحزن المجالس والمؤانس،
وكاد يُسمع للمخطوطات العربيّة نشيجٌ حزينٌ باكٍ على رحيل العلّامة المحقّق الجليل عبد السّلام هارون، ولو كانت تلك المخطوطات من ذوات الأرواح الحيَّة الشّاعرة بفراق الحبيب لانتفضت من صناديقها المقفلة، ولانبعثت من رفوفها المعروضة وهي تعدُّ، وتندبُ، وتشقُّ جيوبَها إلّا أن يمنعها مانع الإسلام!
وغريبٌ موغلٌ في الغرابة أن تحلَّ ذكرى وفاة هذا الرّجل العظيم دون أن يمرَّ بالعقول طائفٌ من ذكرى جهاده الباسل في التّحقيق، وكشفه الكريم عن كنوز العربيّة، وتخريجه لجيلٍ كاملٍ انتشر في أطراف الأرض المتراحبة وهو يحمل سراج العلم الحقّ، ويجول بشعلة المعرفة الرّاسخة، وأنا أدّعي متحدِّيًا صادقًا في الدّعوى أن لو كان مقام الأستاذ عبد السّلام هارون فنّانٌ من الفنّانين البارزين، أبلى بلاءً سيّئًا في مجال الطّرب والغناء مثلما أحسن عبد السّلام هارون بلاءه في خطف المخطوطات من حومة الفناء إلى ساحة البقاء تحقيقًا وتهذيبًا، لبسطت اليوم طنافس الحرير، وصفّت موائد الاحتفال بذكرى ميلاده أو وفاته، بل لرأينا صوره تعتلي هذا الواجوه وهي تكلِّلُه من كلّ جانبٍ، ولما سمعنا لأقلام التّذكير بهلاكه صريرًا، لكن جرسًا ودويًّا وقعقعةً مثل قعقعة الشّنان!
ولئن كان ذلك من أوزار العامّة وأشباه العامّة وهو معذورون، فلا عذر يقوم لأهل العلم، والسّائرين في درب الأدب إذا غفلوا عن رجلٍ كان صاحب أوّل كتابٍ عربيٍّ في فنّ التّحقيق يعالج مشكلاته، ويوضّح مناهجه؛ وأيُّ أديبٍ ينتسب إلى الأدب العربيّ دون أن يقرأ بيان أبي عثمان الجاحظ، وحيوانه، ورسائله، والعثمانيّة، والبرصان والعرجان؟ وكلّ ذلك من تحقيقات الأستاذ عبد السّلام هارون وحيدًا غير مشارَك، ولولا أنَّ العلّامة طه الحاجريّ حقّق كتاب البخلاء لكان صاحبنا هو وحده الذي قام بتحقيق كلّ آثار الجاحظ بلا استثناءٍ.
بل أيّ لغويٍّ أو أديبٍ يرغب في الإلمام بلغة القرآن وهو لا يعرف شيئًا عن معجم مقاييس اللّغة، وشرح حماسة أبي تمّام للمرزوقيّ، ووقعة صفّين لنصر بن مزاحم، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، والاشتقاق لابن دريد، والأصمعيّات، والمفضّليّات، والمصون للعسكريّ، وشرح القصائد الطّوال لأبي بكر الأنباريّ، والكتاب لسيبويه، وتهذيب اللّغة للأزهريّ، وخزانة الأدب للبغداديّ، وكلّ هذه الآثار، وآثارٌ غيرها، من تحقيقات هذا الأستاذ مفردًا أو مشاركًا.
أمّا بعد؛ فلستُ بسبيل الإحاطة بسيرة هذا الأستاذ الفذّ، واستعراض كلّ مدارجه الشّريفة في التّعليم والتّحقيق، فلذلك مكانٌ غير هذا المكان، وساعةٌ غير هاته السّاعة، وحسبُه أنّ اسمه مهما نسيه أو تناساه النّاس فهو جليلُ الوقع في الآذان إذا ذُكر، وحسبُه أنّه سلخ من عمره خمسين عامًا في جلاء صفحاتٍ مشرقةٍ من تراث الآباء، ففارق دنيا النّاس وهو كما قال تلميذه البارّ العلّامة محمود الطّناحيّ: “وخلاصة ما يُقال في الأستاذ عبد السّلام محمّد هارون: أنَّه لم يخطَّ أحدٌ في التّراث سطرًا إلّا ولهذا الرّجل عليه منّةٌ، وذلك أنّك لا تكاد تجدُ قائمة مراجعَ تراثيّة، إلّا وفيها من تحقيقات شيخنا”.
رحمه الله، وأجزل له المثوبة، وأحلَّه جنان الخلد.

محمّدموسىكمارا

كاتب وباحث من غينيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى