Articles

القافلة الدعوية إلى منطقة «بُنْدُو» السونينكية في السنغال: انطباعاتٌ وخواطر

بقلم د. إبراهيم جاكيتي

انطلقت قافلة دعوية مباركة يوم الأربعاء الموافق 17/09/2025م من العاصمة دكار، بتنظيم مشترك بين رابطة علماء ودعاة سننكرا (رعد) والمركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة، متوجهةً إلى منطقة «بُنْدُو» الواقعة في إقليم تمباكندا، حسب التقسيم الإداري الرسمي في السنغال, وتمتاز هذه المنطقة بجمال طبيعتها، خصوصًا في هذا الموسم الماطر، حيث تكسوها الخضرة وتضفي عليها سكينة وطمأنينة.
استهدفت القافلة اثنتي عشرة قرية من عشرات القرى السوننكية المنتشرة في هذه المنطقة المباركة, وخلال هذه الرحلة الدعوية، تولدت لديّ انطباعات عميقة وخواطر متعددة حول طبيعة المنطقة، وسكانها، ومستوى التدين، وحال الدعوة فيها، وهو ما سأحاول عرضه في الفقرات التالية، رجاء أن يكون فيه نفع وتذكير، وتثبيتٌ للجهود المبذولة في هذا الميدان.
أولاً: محبة أهل العلم والدعاة في نفوس سكان المنطقة:
تحظى محبة أهل العلم والدعاة إلى الله بمكانة راسخة في نفوس سكان منطقة «بُنْدُو»، ويظهر ذلك بجلاء كلما انتقلت القافلة الدعوية من قرية إلى أخرى, إذ يخرج السكان من بيوتهم لاستقبال الدعاة القادمين من خارج القرى، ويقفون على أطراف الطرقات، يرحبون بهم بالأناشيد والأشعار السوننكية التي تعبر عن الفرح والاعتزاز.
بل وقد يُرددون أحيانًا نشيد “طلع البدر علينا”، تشبيهًا لمقدم القافلة بمقدم النبي ﷺ إلى المدينة، وتفاؤلًا بما تحمله القافلة من علم وهداية, هذا الاستقبال الحار والمشاعر الفيّاضة يُجسد عمق العلاقة الروحية التي تربط أهل المنطقة بالدين وأهله، ويعكس بيئة خصبة قابلة لتلقي الدعوة وتقدير أهلها.
ثانيًا: استقبال خاص من رؤساء القرى وأئمتها
من اللقطات المميزة والمؤثرة في هذه الرحلة الدعوية، ذلك الاستقبال الحار والخاص الذي حظي به وفد القافلة من قِبل رؤساء القرى وأئمتها. ففي كل قرية نصل إليها، نجد في مقدمة المستقبلين شيخ القرية وإمام المسجد، يرحبون بنا بأدب جمّ ووجه بشوش، ويُبدون احترامًا كبيرًا للعلم والدعوة وأهلهما.

بل إن من شدّة حرصهم وتقديرهم، كان بعضهم ينتظر قدوم الوفد منذ ساعات طويلة، وقد أشرف بنفسه على التنظيم في صورة تعبّر عن المكانة الرفيعة التي يحظى بها العلماء والدعاة في نفوسهم.
ومن المواقف التي تستحق الذكر والتقدير، ما وقع في “مدينة سراقلي”، حيث بادر شيخ القرية إلى قطع رحلته العلاجية في العاصمة دكار، وطلب تأجيل مواعيده الطبية التي كانت متزامنة مع تواريخ القافلة، حرصًا منه على استقبال وفدها بنفسه في بيته, وقد كان هذا التصرف النبيل مشهدًا مؤثرًا يجسّد أسمى معاني التقدير للدعوة وأهلها.
ثالثًا: مظاهر التديُّن في المنطقة
تُعدّ منطقة “بُنْدُو” من أكثر المناطق السوننكية تديُّنًا في السنغال حاليًا، على الرغم من محدودية المؤسسات العلمية والدينية، وخاصة تلك المخصصة للنساء, ومن أبرز مظاهر هذا التديُّن، الانتشار الواسع للحجاب الكامل – بما في ذلك النقاب – بين النساء والفتيات، وهو مشهد يكاد يعمّ جميع القرى في المنطقة، في مقابل ندرته في مناطق سوننكية أخرى مثل “حيري” أو “غجاغا”.
ويبدو أنّ هذا الالتزام الظاهر نابعٌ من حرص نساء المنطقة على تعلُّم أمور دينهن، حيث بادرت العديد من الجمعيات النسائية في عدد من القرى إلى طلب بناء فصول دراسية خاصة بهن وتوفير مدرسين لهن, ويتجلى هذا الوعي في حضور النساء المنتظم للمساجد، وفي مظهرهن المحتشم في الشوارع، بما يدل على مستوى عالٍ من الوعي الديني، ورغبة صادقة في التفقه في الدين، رغم التحديات وقلة الموارد المتاحة.
رابعا: التمسك بالتقاليد السوننكة العتيقة في المنطقة :
إلى جانب مظاهر التدين الملحوظة في منطقة «بُنْدُو»، يبرز تمسّك أهلها القوي بالعادات والتقاليد السوننكية العريقة، التي توارثوها جيلًا بعد جيل, فلا تزال مظاهر الاحترام للكبار، والاحتفاء بالمناسبات الاجتماعية حاضرة بقوة في الحياة اليومية للسكان, كما تُراعى في المجالس آداب الحديث والجلوس، وتُحترم الأنساب والأعراف القبلية، وهو ما يُضفي على المجتمع تماسكًا داخليًا واضحًا وانسجامًا ثقافيًا راسخًا.
خامسا: مشاركة شباب المنطقة في القوافل الدعوية رغم قلة الإمكانيات:
لقد شاركتُ في قوافل دعوية كبيرة في مناطق مختلفة، ولكنني لم أرَ مثل حماسة شباب منطقة “«بُنْدُو» في الدعوة إلى الله ومرافقة أهل العلم من الدعاة المشاركين في القافلة, لقد ضربوا أروع الأمثلة في الجد والاجتهاد وحسن الصحبة، حيث تجدهم يُلازمون الدعاة كما يُلازم التلميذ أستاذه، ويحرصون على الاستفادة من كل كلمة وتوجيه.
ورغم قلة الإمكانيات، لا سيَّما في وسائل النقل، إلّا أنّ ذلك لم يكن عائقًا أمامهم؛ فبعضهم كان يتنقل على دراجات نارية، وآخرون يستخدمون سيارات خاصة، ومع ذلك لم يتخلفوا عن أي محطة من محطات القافلة، بل كانوا سابقين في الحضور والمشاركة.
إن هذا الإقبال الشديد من شباب “«بُنْدُو»” يعكس مستوى الوعي الديني المتزايد في المنطقة، ويشير إلى رغبة صادقة في طلب العلم الشرعي ونشره بين الناس، وهو أمر يستحق الإشادة والدعم.
سادسا: امتلاء المساجد وتفاعل الناس مع البرامج الدعوية:
من أبرز المشاهد التي شدّت انتباهي خلال هذه القافلة الدعوية، امتلاء المساجد بالمستمعين أثناء إلقاء المحاضرات، والكلمات التوجيهية، والنصائح الدينية. فقد شهدنا في كل قرية نزورُها إقبالًا كبيرًا من الرجال والنساء، والشباب وكبار السن، يجلسون بكل أدب واهتمام، يُنصتون لكلمات الدعاة، ويُظهرون شغفًا صادقًا بسماع العلم والتوجيه.
ولا يقتصر الحضور على أهل المساجد فقط، بل إنّ بعضهم يأتون من قرى مجاورة، أو يتركون أشغالهم اليومية ليحضروا هذه اللقاءات، مما يدل على توقٍ واضح للعلم والوعظ، واستعدادٍ نفسي وروحي للتجاوب مع الرسالة الدعوية. وكان لهذا التفاعل أثر كبير في نفوسنا كدعاة، حيث شعرنا بقيمة ما نقدّمه، وبأهمية مواصلة هذه الجهود في مثل هذه البيئات المتعطشة.
سابعًا: حاجة المنطقة إلى المؤسسات التعليمية:
لاحظتُ خلال التنقل بين القرى والمدن في المنطقة قلة المدارس والمؤسسات التعليمية الكبرى، وكذلك مراكز تحفيظ القرآن الكريم, كثير من أبناء المنطقة يضطرون إلى السفر إلى مناطق مثل حيري، غجاغا، وفوتا للدراسة، بدءًا من المرحلة الإعدادية وربما حتى المرحلة الابتدائية، أو لحفظ القرآن الكريم.
لقد كان لي شرف مصاحبة عدد منهم في المعهد الإسلامي بلوغا، والذين أصبحوا اليوم أئمة وخطباء في ديارهم، وهذا يدل على قدرة أبناء المنطقة على تحقيق الإنجازات العلمية والدينية عند توفر البيئة المناسبة.
ومما لفت انتباهي بشكل خاص قلّة الحاصلين على الشهادات العليا في الدراسات الإسلامية في منطقة “بُنْدُو”، على غرار ما يُلاحظ في كثير من المناطق السوننكية الأخرى.
الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى دعم التعليم الشرعي وتوفير فرص التأهيل الأكاديمي، خاصة للشباب والفتيات، لضمان استمرارية الوعي الديني وتأهيل دعاة وعلماء للمستقبل..
ومن هنا، نلفت انتباه الدعاة بمختلف اللغات المحلية إلى أهمية التوجه إلى هذه المنطقة المباركة، لما فيها من حاجة ماسة للدعوة والتوعية, كما نشجع المؤسسات الخيرية المحلية والدولية على مد يد العون لسكان المنطقة، من خلال دعم مشاريع بناء المدارس والفصول الدراسية، مما يسهم في نشر العلم ورفع مستوى الوعي والتعليم بين أبنائها.
وفي الختام، أتوجه بجزيل الشكر والتقدير إلى سكان المنطقة على تيسيرهم وتأمينهم لهذه القافلة الدعوية، وأخص بالذكر شباب الدعوة، وعلى رأسهم الشيخ فودي سيسي والشيخ محمد داود تيام، على جهودهم الكبيرة والمتميزة التي ساهمت في نجاح هذه القافلة, كما أود أن أشير إلى الدور الفعال لرابطة علماء ودعاة سوننكرا (رعد)، والمركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة، في تنظيم هذه القوافل الدعوية النافعة والمفيدة لجميع المشاركين والمستهدفين معا .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى