Articles

العيد في المجتمع السنغالي : نسج القيم الإنسانية في حرير التّراحم

عبد الرحمن كن

في رِحَابِ المجتمع السنغالي، يَتَجَلَّى العيدُ كَنُورٍ مُتَأَلِّقٍ يَخْترقُ حُجُبَ الزَّمَنِ والمَكَان، لِيُذَكِّرَ النَّاسَ بِأَنَّ الْفَرَحَ لَيْسَ فَرْدِيًّا، وَأَنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ نَسِيجٌ وَاحِدٌ تَتَعَذَّرُ مَسَاءَتُهُ إِلَّا بِالتَّعَاضُدِ. فَالْعِيدُ هُنَاكَ لَيْسَ مُجَرَّدَ طَقُوسٍ دِينِيَّةٍ أَوْ أَلْوَانٍ مِنَ الْأَطْعِمَةِ الْفَاخِرَةِ، بَلْ هُوَ مَنْحَنىً رَفِيعٌ لِتَجْدِيدِ الْوَعْيِ الْجَمَاعِيِّ بِقِيَمِ التَّسَامُحِ وَالْعَطَاءِ وَالْإِخَاءِ.

فِي بُيُوتِ السِّنْغَالِ، تَبْدَأُ اسْتِعَادَةُ الْقِيَمِ قَبْلَ الْعِيدِ بِأَيَّامٍ؛ حَيْثُ تَتَوَاصَى الْأُسَرُ بِتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ شَوَائِبِ الْخِصَامِ، فَالْعِيدُ فُرْصَةٌ لِـ “التَّرَاضِي” وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. تَرَى الْأُمَّهَاتِ يُعِدْنَ الْأَطْبَاقَ التَّقْلِيدِيَّةَ بِأَيْدٍ تَتَناوَلُهَا أَيْدٍ أُخْرَى، فَـ “الثِّيبُ” (الطَّعَامُ الْمَحَلِّيُّ) لَا يَخْرُجُ مِنْ بُوتَقَةِ الْفَرْدِ، بَلْ يَكُونُ ثَمَرَةَ تَعَاوُنٍ يَمْتَزِجُ فِيهِ حَنِينُ الْأَجْيَالِ بِسَمَاحَةِ الْقُلُوبِ.

وَفِي شَوَارِعِ دَاكَارَ وَقُرَاهَا، يَتَجَسَّدُ الْعِيدُ كَمِظْهَرٍ لِلْتِقَاءِ الْإِنْسَانِ بِأَخِيهِ الْإِنْسَانِ: يُعَانِقُ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَيَمْدُّ الْكَثِيرُ يَدَهُ لِلْقَلِيلِ، فَـ “الصَّدَقَةُ” لَيْسَتْ فَرْضًا دِينِيًّا فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ عُودٌ أَثِيرٌ يُنْشَدُ بِهِ سُلُوَّةَ الْجَمَاعَةِ. حَتَّى الطِّفْلُ الصَّغِيرُ يُعَلِّمُهُ أَهْلُهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ “الْعِيدِيَّةِ” نُقْطَةَ بَدْءٍ لِفَهْمِ مَعْنَى الْمُشَارَكَةِ، فَلَا يَرْضَى أَنْ يَنْفَرِدَ بِلُعْبَتِهِ دُونَ جَارِهِ.

لَيْسَ الْأَمْرُ مُجَرَّدَ مَشَاهِدَ عَابِرَةٍ، بَلْ هُوَ تَأْصِيلٌ لِفَلْسَفَةٍ مَجْتَمَعِيَّةٍ تَرَى أَنَّ الْأُسْرَةَ الْوَاحِدَةَ هِيَ خَلِيطٌ مِنْ أَنْسَابٍ وَأَرْحَامٍ وَجِيرَانٍ وَأَصْدِقَاء، يَجِبُ أَنْ تَتَرَسَّخَ بَيْنَهُمْ أَلْوَاتُ الثِّقَةِ وَالْوِدَادِ. وَمِنْ هُنَا، تَتَحَوَّلُ زِيَارَاتُ الْعِيدِ إِلَى مَوَاسِمَ لِلتَّوَاصُلِ الْإِنْسَانِيِّ، حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْكِبَارُ لِيُذَكِّرُوا الصِّغَارَ بِأَنَّ التَّرَاحُمَ سِرُّ بَقَاءِ الْمَجْتَمَعَاتِ.

وَإِذَا كَانَتِ الْحَضَارَةُ تُقَاسُ بِقَدْرِ تَمَاسُكِهَا الْأَخْلَاقِي، فَإِنَّ الْعِيدَ فِي السِّنْغَالِ يَكُونُ مِرْآةً تَعْكِسُ تَطَلُّعَ هَذَا الْمُجْتَمَعِ إِلَى أَنْ يَكُونَ نَمُوذَجًا لِلتَّعَاوُنِ الْإِلْكِتْرُونِيِّ (الرُّوحَانِيِّ) بَيْنَ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ. فَهَذِهِ الْمَنْظُومَةُ الْقِيَمِيَّةُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْوُسَطِيِّ الَّذِي يَعْشَقُهُ السِّنْغَالِيُّونَ، وَالَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ التّدين وَالْانْتِمَاءِ لِلْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ بِرِحَابَتِهِ.

فَالْعِيدُ هُنَا… رِسَالَةٌ تَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْعَدُ إِلَّا إِذَا سَعِدَ مَنْ حَوْلَهُ، وَأَنَّ الْقِيَمَ لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا إِذَا صَارَتْ دَمًا يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الْأَعْظَمُ لِـمَجْتَمَعٍ يُحَاوِلُ، فِي كُلِّ عِيدٍ، أَنْ يَبْنِيَ جَسَرًا مِنَ الْأَمَلِ بَيْنَ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى