actualite

الرأي والرّأي الآخر ، منهج للمجتمع العلمي والثقافي الراقي

جبريل لي السماوي

الاختلاف والتّباينُ في الأفكار والآراء، من سُنن هذه الحياة، ومن خِصال المجتمع العلمي الرّاقي، لأنّ كيفيّة تعاطي المفاهيم، ودلالة المصطلحات والألفاظ، والأبجديات، في البيئات المعرفيّة، تختلف وتضطرب، فهمًا ومُمارسةً، في عالم التصوّرات والتصرّفات، فالنّقاشات ( الثقافيّة، العقائديّة، السياسية، الشرعيّة ) والمناظرات العلميّة، ممّا لا بدّ منها في أيّة بيئة جغرافيّة، تحمل في طيّاتها الكثيرَ من الانتماءات، والإيدولوجيّات، والتيّارات الفكريّة، بشتّى ألوانها وهويّاتها وشعاراتها. إن أدب الاختلاف أن أحترم الآخر بما يقول ويطرح ويفكر وأن أنطلق في محاورته من نقاط الاتفاق لا من نقاط الخلاف، ولذا كان الفقهاء يقولون (كلامنا صواب يحتمل الخطأ وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وذلك تأكيداً منهم على قبول الرأي الآخر واحترامه .
إن معظم اختلافاتنا اليوم مردها إلى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي وتضخيم الأنا، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى الفجور في الخصومة . . ولا شك في أن الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والإسقاط عليها، لم يترك لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي .

يجب أن يكون الهدف الأساسي من الجدال العلمي؛ الجريُ وراء ينابيع الحقيقة والمعرفة لمحاولة الاغتراف من مياهِها الصافية، ولا يجب أن يكون الهدف منه؛ مُحاولة اقصاء مدرسة فكريّة معيّنة، أو قصف جبهة إيدولوجية، والتطبيل لانتماء فكريّ مضادٍ، فلا عصمة لأحد في هذه الأمّة إلاّ لرسول النّور، وينبوع الخير (عليه الصّلاة والسّلام) فهو صاحب عِصمة الحماية ( والله يعصمك من النّاس ) وصاحب عِصمة الهداية ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ) ولا تقديس للأشخاص في هذه الأمّة، يقول الامام مالك رحمه الله ( كلّ يُؤخذ من كلامه ويردّ إلاّ صاحب هذا القبر ) فأشار إلى قبر رسول الخير وينبوع النّور عليه الصلاة والسّلام

(الرّأي والرأي الآخر ) حضارة وثقافة اسلاميّة، فحتّى ابليس الملعون، أعطاه الله الكلمة ليتحدّث عن رأيه ( قال ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتُك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فالعزيز سبحانه وتعالى يعلم أسباب عدم السجود قبل أن يوجّه إليه السؤال، لكنّه العزيز عزّ وجلّ، سمح له حقّ الحوار، ليُعلّم لهذه الأمّة مبدأ (الاستماع إلى الخصم) والرّسول فتح الكثير من أبواب الحوار مع اليهود( ويسألونك عن الرّوح، قل الرّوح من أمر ربّي..) (يسألونك عن الساعة…) ( ويسألونك عن ذي القرنين ، قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) نبي الرحمة رسول الله عليه الصلاة والسلام يريد أن يزيل عنهم رجْس الشّبهات، ووسخُ الضلال، ويُطهّرهم بنور العلم، وبيقين الايمان تطهيرا. لا أن يكشف عوراتهم، ويجرح مشاعرهم وعواطفهم، أو يخرجُ من المناقشة كبطل حرب يلوّح بيد الفوز…

ما يلزم علينا هو نقد الأفكار والآراء، لا اقصاء الشخصيات ونبذ الرموز، فالتعصّب الأعمى والتقليد الأعرج هو السبب لهذه النقاشات الفارغة، التي نخرج منها والكلّ مقتنع بآرائه التي كانت معه قبل الخوض في الجدل. فلا يجب أن يكون الجدال العلمي أداة لفرض العضلات، وترجمة نعرات عصبيّة، وابراز خلجات نفسيّة، فالنّصوص الشرعيّة؛ منها ما هي قطعيّ الثبوت، ومنها ظنّي الثّبوت، ومنها المُحكم والمتشابه، فالسلف والعلماء اختلفوا في مفاهيمَ، واتّحدوا في أخرى، ومتى ما حصرنا أنفسنا في مدارس فكريّة، أو انتماءات دينيّة مُعيّنة، يُمكن أن ننتقل من خلافات معرفيّة هادفة، إلى شنّ حروب طائفيّة جِهويّة طاحنة، فنفقد الثراء والخصوبة العلميّة، في المجتمع الثقافي

مثلا عندما نقول السلفيّة أو علماء أهل السنّة والجماعة، لا تنحصر في مفاهيم أحمد ابن حنبل وابن تيميّة وابن القيّم رحمهم الله جميعا، فالسلفيّة هي : لينُ أبي بكر، وشدّة عمر الفاروق، وعطف عثمان ، وحكمة عليّ، ورُخصُ ابن عبّاس ، وزُهد أبي ذرّ الغفاري، وعزائم ابن عمر رضي الله عنهم، ومقاصد الشاطبي، وظاهريّة ابن حزم، وأثريّة أحمد ابن حنبل ، وفلسفة الغزالي، وفقه ابن تيميّة عليهم الرحمة، فكلّهم يتّكئون على تعاليم الله عزّ وجلّ، وينتقلون من سنّة رسول الخير والنّور.فالانتماء السلفي انتماء منهجي وفضاء رحب ، ولا ينحصر في شخصيات وقامات علميّة ورموز فكريّة خاصّة .

يجب توظيف العدل والانصاف في الحوارات العلميّة، ونطلب منها وجه الله عزّ وجلّ، والوصول إلى الحقّ، بغضّ النّظر عن الوعاء الذي يخرج منه الحقيقة والصّواب، فاستخدام النقاش المعرفي، لتصفية حسابات وهمية مع المُخالف في الانتماء الديني، ليس من تعاليم القرآن والسنّة، ولا من هدي سلف هذه الأمّة ..وإنّما هو عصبيّة للذّات أو للشيخ أو للانتماء، وهذا ليس من مبادئ الوحي العظيم ( ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا) الامام الفقية الباجي وابن حزم رحمهما الله، شغلا أندية الأندلس بالنقاشات العلميّة المُرّة، وهذا لم يمنعهم من تبادل الهدايا والزيارات. والصحيحين ( البخاري ومسلم) خرّجوا أحاديث للخوارج، حتّى قال بعض علماء أهل السنّة ( لم نرَ من أهل الهوى أصحّ حديثا من الخوارج ) والامام الزمخشري الذي كان يتبنّي مذهب المعتزلة، أفاد هذه الأمّة بجمال البيان وسعة العلم، ولا مثيل له في علم الاعجاز اللغوي، وجميع من بعده تأبّطوا كتابه ( الكشّاف ) للخوض في هذا الفنّ. بين العلامة الأصولي العظيم تقي الدين السبكي والكبير ابن تيمية رحمهما الله معركة فكرية طاحنة لكن لم يخرجا من نطاق الأدب والاحترام . بين السخاوي والسيوطي خلاف فكري طويل لكن لم يتطاول أحد على الآخر. بين أبي حيان وابن مالك نقاش شرش لكن لم ينفلتا من الموضوعية والمنهجية العلمية. بين القاضي مجخت كل ومور قج كمب الككي صاحب مقدمة الككي عراك فكري طاحن لكن بعد وفاة الأخير رثاه القاضي بقصيدة حزينة .

أخيرا…يجب أن نتعلّم العلم للاستقلال الفكريّ، ولكشف ذواتنا الضائعة في غياهب الظلام، ولملئ فراغنا الثقافي والمعرفي ، وليس لكسبِ مكان وراء القطيع المُنقاد، أو لتبنّي أفكار الغير، كيْ نُدافعَ عن التيّار الديني الفلاني ، أو لحراسة الينبوع الفكري الذي ننتمي إليه .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى