
الجلسات الوطنية حول المدارس القرآنية: الرهانات والتحديات
في شهر نوفمبر ٢٠٢٤، أصدر فخامة رئيس الجمهورية بمناسبة اليوم الوطني للمدارس القرآنية تعليماته بتنظيم مشاورات وطنية حول المدارس القرآنية وتقديم نتائجها إليه. وقد لقي هذا الإعلان ترحيبا واسعا من قبل اصحاب هذه المدارس والمهتمين بها عموما، نظرا لكون مثل هذه المشاورات الوطنية فرصةً تاريخية للمدرسة القرآنية كي تتبوأ مكانتها المستحقة في النظام التربوي السنغالي.
ومنذ ذلك الإعلان سارعت وزارة التربية إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة للتحضير لهذه المهمة الوطنية الكبرى،حيث نظَّمت عدة ورشات عمل من أجل إعداد الوثائق المرجعية للمشاورات، والأدوات الضرورية لتسييرها بصورة جيدة. وقد اتضحت من خلال هذه الوثائق سياقاتالجلسات وملامحها وأهدافها ومنهجية إدارتها.
ويتمثل الهدف الرئيسي من هذه الجلسات في توفير ظروف مناسبة لإجراء مشاورات موسعة حول المدرسة القرآنية تضم جميع الاطراف المعنية من مدرسي القرآن، وأصحاب المدارس، والأولياء، والسلطات، والشركاء… وذلك بهدف تطويرها، وتحسين ظروفها، ودمجها بشكل كامل في النظام التربوي الرسمي، مع المحافظة على طبيعتها وخصوصياتها ومبادئها الأساسية.
ويمر تنظيم هذه المشاورات بثلاث مراحل: أ- مرحلة التحضير (وقد أنجزت)، ب- مرحلة المشاورات الجهوية على مستوى المقاطعات، ج- ومرحلة المشاورات الوطنية التي تنظم في دكار العاصمة.
ومن ناحية أخرى، تمَّ إعدادُ منصةٍ إلكترونية لفتح باب المشاركة لجميع الراغبين في إرسال أفكارهم واقتراحاتهم إلى اللجنة العلمية، ولتمكين المواطنين من متابعة فعاليات هذه الجلسات مباشرة.
الرهانات والتحديات
تنطوي هذه الجلسات الوطنية على رهانات كبرى؛ فالمدرسة القرآنية في السنغال أدت دورا تاريخيا مهما في الحفاظ على هوية المجتمع السنغالي، وفي نشر الإسلام وقيمه،وفي إعداد أجيال من الأبطال المقاومين، وما زالت أبناؤها وخريجوها يبرزون بإيجابية في مختلف الميادينالاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
ومع هذا الإرث القيم لم تحظَ المدرسة القرآنية تحظى برعاية تذكر من قبل السلطات السنغالية المتعاقبة بعد الاستقلال إلى بداية هذه الألفية، فضلا عن تعرضها لسياسات استعمارية مناوئة لها.
وعلى الرغم من مطالبة الشعب السنغالي المتدين بإدراجالتعليم الديني في النظام التربوي بإلحاح شديد، ظلت المدرسة القرآنية ضحية للتهميش إلى سنة 2002، حيث اتخذت الحكومة الليبرالية آنذاك مبادرات ترمي إلى تحديث المدارس القرآنية.
ومنذ ذلك الحين شهدت السياسة الحكومية عدة تطورات مهمة؛ من أبرزها تعديل القانون التوجيهي 91-22، وإنشاء مفتشية للمدارس القرآنية في وزارة التربية، ثم تحويلها إلى مديرية، وإطلاق مشروع تحديث المدارس القرآنية بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية، شمل بناء مدارس قرآنية عمومية، وإشراك عدد من المدارس القرآنية في بعض برامج الوزارة،وإعداد مشروع قانون بوضعية المدرسة القرآنية … إلا أن هذه التطورات لم تخل من صعوبات كبيرة، كان أبرزها عدم التوافق بين الأطراف المعنية حول الإصلاحات المقترحة، خاصة حول مشروع القانون.
وفي السنة الماضية 2024م، ومع وصول حزب الباستيفإلى الحكم، شهد هذا الملف نقلة نوعية، إذ وضعت السلطات الجديدة المدارس القرآنية في مقدمة اهتماماتها ضمن مشروعها لإحداث تحولات جذرية في المجتمع.
فمن بين المحاور الأربعة التي تقوم عليها رؤية “السنغال 2050” محور رأس المال البشري والإنصاف الاجتماعي، وتعدُّ المدرسة القرآنية في هذا الإطار فاعلا أساسيا واستراتيجيا لتحقيق التغيير المنشود.
وقد تنبهت السلطات الجديدة إلى الثغرة التي شابت المحاولات السابقة، والمتمثلة في غياب التوافق بين المعنيين الأساسيين، أي أهل القرآن، فأرادت أن تُبنى سياستها التربوية الجديدة على أساس توافقي متين. ومن هنا جاءت دعوة رئيس الجمهورية إلى تنظيم هذه المشاورات الوطنية لتكون المنطلق والأساس لسياسة الدولة تجاه المدارس القرآنية
وتكتسي هذه الجلسات أهمية استراتيجية كبرى لأنها قد تحدد ملامح السياسة التربوية الحكومية المستقبلية الهادفة إلى دمج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي بما يتضمنه ذلك من التزامات متعددة للدولة تجاه هذه المؤسسات.
وللأهمية البالغة لهذه الجلسات حرص مدرسو القرآن وأصحاب المدارس على المشاركة فيها بشكل واسع وجاد ،مما وضع أمام السلطات والمنظمين تحديات كبرى، أبرزها:
• اتخاذ التدابير اللازمة لضمان المشاركة لأكبر عدد ممكن من أهل القرآن في المشاورات؛
• التواصل الفعال مع جميع المعنيين من الأولياء والمشايخ والشركاء؛
• تبنى منهجية صارمة وشفافة تضمن المشاركة الفعالة للجميع؛
• توفير الوثائق والأدوات اللازمة لتسيير المشاورات باحترافية وموضوعية؛
• تحقيق نتائج تحظى بالقبول والإجماع بين المشاركين.
إن هذه الرهانات والتحديات تجعل المسؤولية المنوطة على عاتق الجهات المنظمة مسؤولية تاريخية جسيمة، كما تفرض على جميع الأطراف التكاتف والتعاون لضمان نجاح هذه الجلسات خدمة للمدرسة القرآنية، وللنظام التربوي،وللمجتمع السنغالي بأسره.
د. سام بوسو عبد الرحمن



