actualite

البنيات العميقة والمظاهر السطحية واقع دول “التبعية” واقع معقد:

د.عبد الله السيد

هناك أنساق بنيوية عميقة حاكمة، تتخطى الكيانات البشرية التي تتوهم أنها صاحبة الكلمة في حوزتها الترابية إلى سلسلة من الاتفاقيات، ومنظومة من المعاهدات التي وقعت عليها مكرهة، بفعل نفوذ مستعمر الأمس، أو مراعاة “للتوجيهات السامية” لشركاء “التنمية”.
وضمن هذا الحيز تتحدد أدق التفاصيل التي تحكم كيان دولة التبعية؛ متمثلة في “الميزانية”؛ حيث يعكس بناؤها وبنودها مدى قدرة الشريك الخارجي على مراقبة امتثال الدولة التابعة لسياساته.
إنها تبنى بشكل لا يسمح للكيانات التابعة بحقها في الاستقلال، بل يفرض عليها أحيانا اعتماد الخداع والكذب لتجنب غضب الشركاء.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فهي لا تستطيع اكتتاب العمال وفق الحاجة، ولا تحسين الرواتب والأجور؛ لأن ذلك سيخل بالتوازن المالي، ويتعارض مع المسطرة المرسومة من المؤسسات المانحة.
وإذا تحتم عليها أن تفعل شيئا من ذلك تجعله ضمن بنود أخرى غير بند الرواتب، كما نفعل الآن، مثلا، مع مقدمي الخدمة في التعليم، أو الحوافز التي تدفعها المستشفيات لبعض عمال الصحة…
وبالنسبة لبنود “التجهيز” و”الاستثمار” فينبغي أن تكون بعيدة عن خلق مشاريع التشغيل، والصناعات الخفيفة، والورشات؛ لأن ذلك متروك للقطاع الخاص؛ وبالتالي لكي تصرف هذه البنود يجب تغيير واجهات البناية الواحدة كل مرة، والمبالغة في شراء الحواسيب والمكاتب والسيارات غالية الثمن، وانتداب مكاتب الخبرة لوضع تصورات تبقى غالبا في الأدراج.
وإذا وجدت الدولة موارد جديدة فعليها أن تفتح لها حسابات في إحدى دول النفوذ باسم “صناديق الأجيال” أو “السيادة”، وأن لا تدخلها في الموارد السنوية؛ لأن ذلك قد يخل بالتوازن المالي!
في هذه الدوامة تستمر القطاعات الخدمية في موتها السريري، وتتفاقم هجرة الكفاءات الوطنية للنهوض باقتصاد الكبار ، شركائنا الأجلاء، وتستمر الدولة على حالها بائسة مستهلكة، مستجدية….

  • وهناك تمظهرات سطحية قد يحسبها الظمآن ماء في آن من الزمن، ثم ما يفتأ حتى تنكشف له على حقيقتها سرابا؛ يزيد من استشراء النفسية الانهزامية لمواطني الدول التابعة، ويعلق آمالها أكثر على الهجرة.
    وتكون هذه التمظهرات السطحية في الممارسة السياسية أثناء عرض البرامج، وعند تتويج المنتخبين، وتشكيل الحكومات، وإعلان الخطط قصيرة الأمد وطويلة الأمد.
    ذلك أنه بمجرد دخول هذه التمظهرات في مكانها من البنية العميقة تجد نفسها عاجزة عن فعل أي شيء، ويتحتم عليها أن تمارس دورها وفق النسق المحدد سلفا في قواعد البنية العميقة.
    ضمن هذه الدوامة التي تترنح فيها دول التبعية منذ استقلالها، والتي تتفاقم أحيانا وتتآزر مع ظروف أخرى فتحول بعض الكيانات إلى دول فاشلة أقترح على فخامة الرئيس أن يحاول الخروج من هذا النفق باعتماد سياسية بديلة، تنطلق من الإمكانيات الذاتية، وتسعى إلى الاستقلال التام.
    وفي هذا الإطار لسنا بحاجة إلى:
  • أغلبية تحكم ومعارضة تنتقد: نحن بحاجة إلى أن يشترك الجميع في الحكم والانتقاد معا، وتشكيل حكومة وطنية يشارك فيها الجميع إلا من أبى، وتكون من معايير اختيار أفرادها الكفاءة العالية، والاستقامة المشهودة. ولعل حضور المعارضة في الحكم والتيسير إلى جانب الأغلبية يكون أكثر نفعا للبلد…
  • عدد كبير من الوزارات والإدارات العامة والمؤسسات المستقلة؛ لأن هذه ببساطة هي بنية الدول الغنية ذات الموارد الهائلة، وبالتالي ينبغي أن نتقشف لندخر المال للتنمية.
  • تجهيزات فاخرة وسيارات فارهة لسنا بحاجة إلى تنمية روح من الاستهلاك لدى مواطنينا الفقراء.
  • إكراميات عينية، وتخفيضات في دكاكين محدودة العدد لصالح الفقراء، بقدر ما نحتاج تعليمهم كيف يحصلون على الغذاء، وكيف يدخرونه، وتغيير قيمهم في الأكل واللباس لأنها من أسباب الفقر.
    وقصارى القول فإن الغبن، والفقر، والجهل، والمرض… التي وعدت بمحاربتها في برنامجك لا يمكن القضاء عليها، وعلى آثارها باعتماد البنية العميقة التي فرختها وكرستها وفاقمتها؛ أعني بنية دولة التبعية التي نعيشها في ظل سياسة الهيمنة التي يفرضها الكبار بالأساليب الناعمة والخشنة.

كاتب وناقد أكاديمي من موريتانيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى