Articles

افتتاح المدارس / تذكار الماضي

جبريل لي السماوي

كنّا متوقّدين بنور البراءة والرقّة مثل دمعة الأنبياء، كنّا كأجنحة الملائكة طهارةً وكَضحْكةِ السماء روعة، كرقصة الفراشات قرب بائع الورد بألوانها الساحرة. ندقّ الأرض بأرجلنا وكأننا نريد كسر هيبتها، نركض فوق الرّمل حفًاةً ولا نعبأ بشيء.. فقط نمضي قدمًا بأجسادنا المالحة إلى الأمام. كانت لنا أفئدة رهيفة، نملك في داخلنا سحرا أنيقيا وإيروتيكيّا بحجم ألف قبلة. لا تعنينا تقلّبات الكون ولا تجاعيد الزمان ولا مستجدات الحياة ولا صراعات السياسة.. حيثُ لا أحزان تمتدّ إلى نبضات قلوبنا ولا أشجان تُعكّر صفاء ملامحنا القمريّة ولا شوائب تختلط ببياض أرواحنا…كنّا عُراةً من كلّ شيء في هذه الحياة البائسة إلاّ من الجمال الرّوحي والابتسامة الرنّانة .

في الليلة الأخيرة ما قبل الرجوع إلى المدارس.. إلى وُكَنات “المعرفة” الخضراء.. كُنّا ندفع عقارب السّاعة دفْعًا صوبَ لاح صباح جميل، في ذلك الصباح المقدّس كانت الأفراح تبتسم على شفتيها الوضّائتين، صباح يحتضن في أنسامه الحبلى كلّ قواميس البهجة والسعادة..
يصيبنا ( هيستريا الاشتياق ) للعودة إلى الأسرة الثانية.. إلى الحضن الدافئ كالظلّ الممتدّ.. إلى ذلك الوالد اللطيف ( المدرّس) الذي يجلو صدأ العقل الانساني ويصقل مرآته، إلى تلك السيّدة الشبيهة بأغنيات النّاي ( Yaa Séyda) ماما الثانية.
إلى بائعة الفطور الحنونة، إلى حارس المدرسة الذي قلّما يمرّ صباح دون أن نتعارك معه عند الباب،. نشتاق إلى كلّ التفاصيل هناك في حيّ المدرسة .

لذلك لم نكنْ ننهي فنجان قهوتنا في ذلك الصباح الذي كان يمثّل بداية رحلة إلى أعماق الحياة، لم نكن نبالي برغيف الخبز مهما كان لذّته وسخانته والمرقُ الذي يرتمي في أحشائه. كُنّا نحمل محفظتنا وأدواتنا المدرسية بكلّ كبرياء وخيلاء.. نرتدي أروع الثياب.. نمشي مشية مصطنعة كنجوم السينيما، برفقة أمّهاتنا المحاربات ..وكلّنا شوق وحنين إلى باب المدرسة..
أه! ما أروع اللقاء بعد الغياب والافتراق لمدّة ثلاث أشهر. كنّا نحُوم داخل الفصل كعصافير متشرّدة في الأجواء. الكلّ يحكي مغامراته في العطلة الصيفيّة، ويقرأ بأندى صوت رواياته الحُلوة وحكاياته الجميلة التي عاشها في تلك المدينة التي قضى فيها عطلة الصّيف وتمتّع بنشوتها .

هذه الحروف مهداة ….
إلى كلّ المُعلّمين والمعلمات الأفاضل والفاضلات ( أنتم أنبياء بلا رسالة) فأنتم الذين تُفردِسون هذا الكون بنشر العلم وتُموْسِقون الحياة بصناعة العظماء وأعلام النّبلاء
إلى كلّ من قرأ النّص، واكتشف ذاته تحت حروفه الخجلة، فابتسم ابتسامة عابرة…إلى كلّ من قرأ النصّ وإعادة قراءته للمرّة الثانية، فسافر عبر سفينة الطيف إلى ذاكرة الصبا وأيّام العنفوان والطفولة البريئة
إلى المعلّم الذي ليس له سلاحا يدافع به عن وطنه إلاّ قطعة طبشورة يبني بها عظماء الغد .

سلام على معلّمينا ومعلماتنا الذين علمونا استقامة الحرف واعتدال السطر وهيبة الأبجدية وقداسة القراءة
سلام على سبورة حضنت كل درس فما ضجرت ب (ألف) ولا ضاقت ب(ياء)
سلام على الذين أبكونا ثانية لنضحك طوال الدهر وعاقبونا بضعة ثوان لنستقيم إلى الأبد
سلام على سدنة الحروف أرباب المعرفة وناشري الحقيقة
سلام على الأيادي المغمسة بأحبار القلم
على الضمير الواقف بكلّ عشق وحبّ يبني الأجيال رغم وعرة الظروف وكمية التحديات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى