Articles

“اتحاد علماء أفريقيا”.. نسخة مكررة؟ قراءة متأنية في بيان مؤتمره الثالث

محمد الدكالي

لم أكن أعلم بوجود اتحاد لعلماء الدين الأفريقيين إلى أن أرسل لي صديق عزيز مؤخرا خبر انعقاد مؤتمره الثالث في داكار. تأسس هذا الاتحاد سنة 2011 وعقد مؤتمريه الأول في كيغالي عاصمة رواندا والثاني في دار السلام عاصمة تانزانيا. كان الخبر سارا جدا بالنسبة لي فقد قضيت ثلث عمري تقريبا وأنا أجوب أصقاع القارة ونصفه في البحث والمتابعات، اكتشفت خلالها حقائق كبرى عن القارة لم أكن أعلمها. من هذه الحقائق أن الإسلام منتشر بالفعل في ثلاثة أرباع القارة بمعايير الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ الحضاري والثقافة، وهذا معناه أن الإسلام الأفريقي القاري يشكل ثلث الأمة الإسلامية بتلك المعايير. ومنها أن الإسلام الأفريقي امتحن في تاريخيه الحديث والمعاصر امتحانات لا نظير لها في تاريخ الأمة هددت وجوده أصلا وهو يواجه عتوّ السياسات الإمبريالية الأوروبية منذ القرن 16 إلى الآن، وهي امتحانات في منتهى الوحشية والعنصرية. وكحقيقة ثالثة كبيرة، أن الإسلام “الأسود” حسب تعبير العلاّمة الجهبذ فانسان مونتاي رحمه الله في كتابه الشهير (L’Islam noir) ، لم يصمد بعناد شديد أمام السياسات الإمبريالية الغربية فقط، بل بقي دينا وثّابا، وثقافة إسلامية حيّة بدون انقطاع حتى في أحلك مراحل ذلك التاريخ المظلم، وهو ما يزال كذلك.
هذه مجرد عناوين عريضة جدا وإلا فدونها حقائق كبيرة وتفصيلية لا حصر لها، وهي كلها حقائق مدهشة، وباستثناء قلة قليلة جدا من أهل الاختصاص عندنا نحن العرب، يبقى الجهل واللامبالاة بهذه الحقائق متفشيا مع الأسف لدى عامة المثقفين، بله لدى الرأي العام.
استحضرت في ذهني تلقائيا هذه الخلفيات في لحظات وأنا أقرأ بيان المؤتمر الثالث للمؤتمر الصادر في 26 /5/2025، وبشكل تلقائي كذلك وأنا أقرؤه، كنت أقارن بين روح البيان ومضامينه، والبيانات التي تعودنا عليها لدى عامة علماء الدين العرب المحترمين باتجاهاتهم المختلفة، فظهر لي بوضوح وجود ذهنيتين وطريقتين مختلفتين في النظر والفهم والاتجاه. هذا الجانب ليس هو موضوع المقالة، لكنه مهم وذو دلالات ومن المفيد الإشارة إليه من حين لآخر.
جبهة علمائية موحدة
أول ما لفت انتباهي الطابع الموسع لاتحاد علماء أفريقيا، فهو يضم علماء من 47 بلدا أفريقيا، أي كل بلدان أفريقيا تقريبا باستثناء بلدان شمال أفريقيا رغم كونها بلدانا أفريقية، وأحسب أن هذا الاستثناء له دلالات لعل منها رغبة العلماء الأفريقيين في التأكيد على أصالة وحيوية الذات الأفريقية المسلمة في عموم جنوب الصحراء الكبرى وإبراز رؤاها الخاصة لقضايا بلدانها ولقضايا البعد الأفريقي القاري، وربما كذلك لحرصهم على الابتعاد عن الإشكاليات الناجمة عن التجاذبات بين الاتجاهات المتشاكسة التي في تسود في أوساط العلماء والدعاة والجماعات في العالم العربي..
هذا التمثيل الموسع هو معنى بارز لروح المسؤولية والتضامن لدى الاتحاد تجاه الأمم الأفريقية المسلمة التي تتفاوت نسب سكانها المسلمين في البلدان التي ينتمي إليها علماء الاتحاد، فمنها ما تبلغ فيها النسبة ما يقرب من 100% كما الحال في الصومال وبلدان الساحل من السودان وتشاد إلى غينيا على الواجهة الأطلسية، وبلدان أخرى يشكلون فيها غالبية أو غالبية نسبية كبيرة مثل إثيوبيا وإيرتيريا وتانزانيا وجزر القمر وموزمبيق في شرق أفريقيا، أو في غرب أفريقيا في سيراليون وليبيريا وساحل العاج وغانا وتوغو وبنين ونيجيريا والكامرون التي تتراوح نسب المسلمين فيها من 40 إلى 60%، وأخرى ذات الأقليات التي تتراوح بين15 و 30% مثل أوغندا ورواندا وملاوي وجمهورية الكونغو الديموقراطي. قبائلها ولغاتها عديدة جدا، لكن ما يجمعها كلها إسلام مبسوط في المجتمعات كدين وثقافةاجتماعية وتعلق شديد باللغة العربية على مدى أكثرمن ألف عام.
هذا البعد الوحدوي في ” مؤتمر علماء أفريقيا” هو في واقع الأمر، امتداد طبيعي لآمال الشعوب الأفريقية قاطبة في الوحدة، بمعنى التحرر من السيطرة الإمبريالية والتكامل والتعاون الجماعي، فقد استمرت هذه الآمال حية منذ مرحلة استقلال بلدانها، ولأمر ما تأسست منظمة الوحدة الأفريقية سنة 1963، وهي إحدى كبريات المنظمة الإقليمية في العالم. الفكر الفلسفي والسياسي الأفريقي المعاصر يعكس بقوة هذه الأشواق، عند المسلمين وغير المسلمين، بخلفيات إنسانية وأخلاقية وسياسية عميقة، كحالة جمعية من الاعتداد بالكرامة الإنسانية التي تعرضت لممارسات مهينة ووحشية لا يضاهيهها من حيث حجمها وفظاعاتها طوال خمسة قرون سوى ما حاق بشعوب القارة الأمريكية الأصلية.
هناك خاصية أخرى هامة جدا في هذا الاتحاد تتعلق بتجاوز الانتماءات الفئوية الضيقة كجماعات وطوائف، وبقدرتهم على العمل الجماعي والتعاون بأشكال ومستويات مختلفة كلما تعلق الأمر بمصلحة الإسلام ككل، خاصة عندما يكون هناك تهديد ما لهويتهم الإسلامية الجامعة، ففيهم المتصوفة ولهم وزنهم الكبير تاريخيا واجتماعيا، وفيهم “السلفيون” وفيهم “الوسطيون” وفيهم المستقلون الذين ليست لهم انتماءات فئوية. أنا واثق من أن هذا الاتحاد يضم كل هؤلاء، لأن كل من عرف البلدان والمجتمعات المسلمة الأفريقية من قرب، يدرك هذه الخاصية، فالناس هناك ميّالون بشكل يكاد أن يكون غريزيا إلى التسامح وينفرون من البغضاء الاجتماعية أو الدينية مع وجود التنوع ومع وجود اختلافات ما كظاهرة طبيعية. وكمثال على هذه الخاصية الجامعة، ظاهرة التعليم الإسلامي العربي الأهلي التي اجتاحت كل أفريقيا المسلمة كردات فعل مجتمعية بامتياز على السياسات الفرنكوفونية التي تستهدف هويتهم الإسلامية كهوية أصيلة بالاستئصال، فقد هبّت كل هذه الاتجاهات منذ عقود إلى تأسيس آلاف المدارس الأهلية وناضل جميعهم لإجبار حكوماتهم العلمانية على الاعتراف بهذا القطاع التعليمي الهائل وإدماجه في الأنظمة التعليمية الرسمية، وهذه الظاهرة من بين ظواهر أخرى، تحظى باهتمام كبير من لدن مراكز البحوث في الغرب. هذا مجرد مثال واحد.
الوعي بالواقع
تدرجت موضوعات البيان الختامي للمؤتمر الثالث من ملفات وطنية مشتركة إلى ملفات إقليمية وصولا إلى قضايا أكبر على مستوى الأمة. وخلافا لما دأبت عليه بيانات العلماء، جماعية كانت أو فردية في العالم العربي، من التركيز على العموميات والاكتفاء بالإستشهاد في شأنها بالنصوص القرآنية والحديثية، يلاحظ من خلال البيان، أن العلماء الأفريقيين منشغلون أيما انشغال بحل مشكلات معينة من خلال قضايا واقعية ومحددة تتعلق بالأوطان وبالقارة، مع طرح مواقف وتوصيات وآليات محددة لتحقيقها كخطوط عريضة.
المحور الأساسي في المؤتمر كان حول الوقف، وله تاريخ عريق في أفريقيا المسلمة كممارسات مجتمعية وكتراث فقهي. الملاحظ أن المؤتمر اعتني بهذا الموضوع عبر عدة أبعاد: بإعادة إحياء تراثه فقهه، وبتطوير الدراسات حوله وربطه، وهذا جانب لافت للانتباه، بمسألة التنمية، والانفتاح بالدراسة والتقييم على تجاربه المعاصرة في شرق أفريقيا وغربها، وزادوا على هذا كله مبادرة ذكية وهامة وهي “إعادة الاعتبار لفقه الوقف كمادة في المناهج التعليمية والتربوية” في المدارس والجامعات. هذه المقاربات متعددة الزوايا في النظر نجدها عادة في المؤتمرات العلمية المتخصصة وليس في بيانات علماء الشريعة، وقد ورد في البيان حول موضوع إدارة الوقف دعوة لتأمين “متطلبات الجودة والحكامة”، وهي مفاهيم ومصطلحات لا ترد في العادة في أدبيات العلماء والمشايخ في البلدان العربية.
موضوعان آخران كبيران ناقشهما المؤتمر ويتعلقان بالأوضاع السياسية والأمنية على المستوى الإقليمي في منطقة الساحل وهي قضية كبيرة ومعقدة، فهذه المنطقة تغلي منذ عقدين بفتن خطيرة. أولهما ظاهرة المجموعات الانفصالية و”الجهادية”، وهي ظاهرة لصيقة جدا بأجندات القوى الامبريالية في أفريقيا (فرنسا وأمريكا وروسيا) لتفسيخ وتفتيت المنطقة وللسيطرة على الموارد الهائلة في إقليم الساحل وفي القارة ككل، ثانيهما الوضع جيوسياسي في المنطقة بعد تعاظم الرفض الشعبي للوجود العسكري الفرنسي وصولا إلى طرد السفراء الفرنسيين وإخلاء قواعدهم العسكرية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في تشاد والسينغال، وتصعيد القوى الإمبريالية لتدخلاتها الأمنية والسياسية كرد فعلفقد دعا البيان إلى استخدام “الدبلوماسية الثقافية” للمساهمة في معالجة العلاقات بين دول الإقليم وللمساهمة في معالجة الفتن الدموية في عدد من المجتمعات المحلية أسوءها ما تقوم به الجماعات الانفصالية و”الجهادية” من مذابح للسكان منذ سنوات وعلى نطاق واسع في الإقليم، وشن هجمات على القوات الحكومية. جاء موقف الاتحاد من هذه المشكلات الخطيرة، مرة أخرى، بروح المسؤولية والواقعية، فلم يشنوا هجوما على الإمبريالية وأدواتها الوظيفية المحلية وهم يعلمون تمام العلم أن هذه حقيقة، بل استخدموا مصطلح “الدبلوماسية الثقافية” وهو متداول في الأدبيات السياسية المعاصرة، وفيه إشارة إلى الاستفادة من ممكنات الثقافة الأصيلة المشتركة للصلح وحل الخلافات، وإظهار لاستعداد الاتحاد للقيام بدور في هذا المجال رسميا وشعبيا. ومن باب الفضول قارنت بين طريقة مقاربة العلماء الأفريقيين لهذا النوع من القضايا الإقليمية وموضوعات حيوية أخرى مما ورد في بيانهم، ومستوى اهتمامات رابطة علمائية مغاربية معينة بمثلها من القضايا في منطقتها، ولو من باب الاهتمام، فوجدتها غائبة تماما لدى هذه الأخيرة!.
ومما يلفت الانتباه كذلك انشغال العلماء الأفريقيين بحكمة ظاهرة وبعد نظر، بتعزيز عناصر الهوية الإسلامية في أفريقيا المسلمة عبر التأكيد على “أهمية مراجعة التراث الفكري والثقافي في جميع مدارس المسلمين لتجاوز الأخطاء الاجتهادية” ولم يستخدموا كلمات مثل “الانحرافات” أو “البدع” أو “الضلال”..إلخ، و”دعم الدراسات الشرعية والعربية في جميع مراحل التعليم الأساسي الذي تعتمد عليه حضارة الإسلام ويحفظ للأمة شخصيتها الإسلامية المتميزة”، و”مراجعة قوانين الأسرة المستوردة التي حلت محل الأحكام الشرعية”، وكلها قضايا حيوية في الرؤية والخريطة الذهنية للعلماء الأفريقيين.
ما أرغب في التأكيد عليه هنا في هذا كله وحوله، هي الطريقة التي ينظر ويفكر بها علماء أفريقيا. لنلاحظ أنه لم يرد في البيان أية نصوص قرآنية أو حديثية، وهذا حسب فهمي وخبرتي بأفريقيا المسلمة ليس قصورا ولا تقصيرا، بل لأن الصفوات العلمائية والمثقفة الأفريقية يميلون بشكل واضح إلى التعاطي مع قضايا ومشكلات الواقع، ويفهمون تماما أن المطلوب ليس هو التأكيد وإعادة التأكيد على بديهيات المفاهيم القرآنية مع البقاء خارج الواقع، بل يدركون تماما أن التحديات الحقيقية تكمن في القدرة على التعاطي مع تلك القضايا والمشكلات على الأرض والمساهمة في معالجتها، وفقا للمقاصد والمفاهيم القرآنية، وتحديد الاختيارات والتوجهات العملية في المعالجات، وليس بالإغراق في التنظير المجرد.
كل هذا وغيره، هو في تقديري بدايات تشكّل مدرسة نهضوية تجديدية حقيقية تتبلور في أفريقيا المسلمة جنوب الصحراء ولها قصة طويلة.
مسارات المقاومات والنهضة
قد يستغرب البعض منهذا العنوان وربما يعتبرونه مبالغات، ولن أستغرب بدوري ردود أفعال كهذه، لأننا في العالم العربي وقعنا ضحية خطأين مزدوجين جد شائعين إلا من ندرة: جهل شائع وعدم اكتراث بما يجري عند الجار الجُنُب والصاحب بالجنب، والتأثر بالدعاية الإمبريالية حول أفريقيا والأفريقيين عبر صور تنضح بالعنصرية والاستعلاء.
لفهم مسارات بدايات نهضة مسلمي أفريقيا جنوب الصحراء الآن، يتعين التمييز بين ثلاث مراحل رئيسية في تاريخهم الحديث والمعاصر:

  • المرحلة الاستعمارية الممتدة من القرن 16 إلى منتصف القرن 20، ومن المستحيل اختصارها بأي شكل، لكن بوصف كلّيّ عام، عاش خلالها مسلمو أفريقيا وعامة شعوب القارة ليلا مظلما غاية في الوحشية والفظاعة من كل نوع، بإبادات في المجتمعات المحلية، واستنزاف ديموغرافي هائل عبر تجارة العبيد لعشرات الملايين من البشر رجالا ونساء شبابا وأطفالا في ظروف مروّعة كما تعبر عنها أفلام عدد من المخرجين الأمريكيين السود، واستغلالهم بأشكال فظيعة جدا في العالم الجديد، وفي بلدانهم نفسها، في نفس الوقت استهدف الاستعمار الأوروبي الهوية الإسلامية بأشكال استئصالية. رغم هذا خلال هذه المرحلة المظلمة، حافظ الإسلام كدين وثقافة وهوية على وجوده بشكل ثابت عبر البنيات والقيادات الدينية التقليدية، وسيشهد أنماطا من المقاومات الجهادية والثقافية منذ القرن 18 وستستمر بدون هوادة إلى مشارف مرحلة “الاستقلال” في نهايات الخمسينات الماضية. (للاطلاع على هذه الجوانب من تاريخ أفريقيا يرجع إلى الموسوعة الضخمة “تاريخ أفريقيا العام” وهو في تسع مجلدات و12 مجلدا تكميليا، صدر عن منظمة يونسكو وأشرف عليه د. أحمدو مختار مبو الذي توفي سنة 2024 وقدبلغ أكثر من مائة سنة رحمه الله، حشد لها 230 مؤرخا وباحثا متخصصا وتطلب إعدادها 35 عاما).
  • مرحلة الاستعمار الجديد بعد “الاستقلال” منذ بدايات الستينات الماضية وقد استكملت فيها كثير من الشعوب الأفريقية تحرير أوطانها من الاحتلال العسكري. لكن الامبريالية الغربية ستطور استراتيجياتها وأدواتها لتأبيد سيطرتها الفرعونية على القارة ككل، وبالنسبة لمسلمي القارة سيتعرضون لبرامج عاتية في التعليم والثقافة والإعلام غاية في القوة والدهاء بعيدة المدى لاستئصال هويتهم الأصيلة، وتغذية عوامل التأخر بدون توقف في أوضاعهم السياسية والاقتصادية، وتصميم استراتيجيات حقيقية لنشر الإرهاب والقتل على نطاق واسع لتمزيق الأوطان والمجتمعات. هذه المرحلة المتداخلة مع التي قبلها، ستشهد بدايات تحولات عميقة تدريجية منذ الستينات الماضية، عندا سيتحول الإسلام إلى ثقافة مضادة (contre pouvoir) حسب تعبير الخبير الفرنسي كريستان كولون (Christian Coullon) لسياسات الحكومات العلمانية الأفريقية، خاصة في مجالي التعليم والثقافة، عندما ستجتاح كل مناطق أفريقيا المسلمة موجات من تأسيس المدارس الإسلامية العربية الأهلية بالآلاف، وآلاف الجمعيات ذات الطابع الثقافي الإسلامي، وهذا ما سيشكّل ظاهرة مجتمعية ثقافية فرضت، رغم كل العراقيل والتحديات التي يمكن تصورها داخليا وخارجيا، الاعتراف الرسمي بهذا القطاع الشعبي واسع النطاق وإدماجه في النظام التعليمي، وسيتكيف هذا القطاع الأهلي بذكاء ومرونة مع إكراهات الواقع. تجب الإشارة إلى أن هذه الظاهرة بالذات هي موضوع دراسات عميقة ومتواصلة من طرف مراكز الدراسات والبحوث الغربية.
  • النتيجة المتوقعة والمنطقية لهذه التحولات، بروز جيل جديد من العلماء والدعاة والمثقفين والأطر العليا من أصحاب التخصصات المختلفة وفي الجامعات، وسينتشر هذا الجيل بأشكال تلقائية في المجتمع والدولة حاملين للفكرة الإسلامية برؤى وأفكار نهضوية تجديدية بحكم استيعاب هؤلاء الأخيرين للثقافة الغربية، إلى جانب مرجعيتهم الدينية والثقافية الأصيلة. وسيطور هذا الجيل رؤاه وأدوات عمله، خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، بتوليفات ثقافية وسياسية واجتماعية، ستؤثر بأشكال مختلفة في صلب الثقافة الاجتماعية للشعوب الأفريقية المسلمة، وفي علاقة المجتمع مع الدولة، يقودها مجتمع مدني نشط بشكل متزايد، وصولا إلى حالات من التطور الفعلي لفكرة النهضة، كما هو الشأن في الصومال الذي انتقل من الموت إلى البعث بعد انهيار الدولة سنة 1991 ودخول البلد في مرحلة مخيفة من الحرب الأهلية والتدمير الشامل للمؤسسات، بإعادة صياغة أدوار المجتمع القبلي وإعادة بناء مؤسسات الدولة خلال عشرين سنة الأخيرة، وهي تجربة مدهشة قادتها صفوات مثقفة ومهنية ومجتمع مدني نشط جدا، وأجرؤعلى القول بأنها تجربة ليس لها نظير في التاريخ المعاصر للأمة. وفي السينغال، وصلت صفوات ذات خلفيات إسلامية إلى قيادة الدولة منذ سنة وشرعت في خوض تجربة سياسية جديدة مختلفة تماما عما عرفه البلد منذ الاستقلال تعكس، حتى وإن كانت التجربة في بداياتها، رؤى مقاصدية واضحة في تدبير مصالح الدولة والمجتمع وهي تجربة جديرة بالاهتمام والمتابعة والدراسة كذلك.
    وفي واقع الأمر، هذه خاصيات عامة مشتركة كذلك في كل بلدان أفريقيا المسلمة بمستويات مختلفة وعبر تجارب متنوعة وفقا لسياقات كل بلد. وعندما نتحدث عن المسارات النهضوية الحالية لمسلمي أفريقيا، يجب أن ينصرف الذهن إلى طبيعتها الدينية والثقافية والسياسية في صلب الثقافة الاجتماعية للصفوات العلمائية ولطيف واسع من المثقفين والأطر العليا وفي شرائح شعبية واسعة في تلك المجتمعات، هذه حقيقة موجودة على الأرض، وتجب الإشارة هنا إلى أن الصفوات المسلمة الأفريقية من العلماء والأطر العليا والمثقفين، بقوا بعيدين في تفكيرهم وممارساتهم بعيدين تماما عن العنف أو الصدام مع الأنظمة السياسية وركزوا على تغيير الأفكار والمفاهيم في صلب الثقافة الاجتماعية بالعمل الثقافي والتربوي والمدني والسياسي، وهذا هو الشرط والأساس في أية نقلة حضارية جادة. هذه التحولات ستفضي بالضرورة إلى أخرى كبيرة في مستقبلات بلدان أفريقيا المسلمة، وستتطلب عقودا من المجاهدات.
    ما يجب أن نستوعبه في تقديري، نحن في البلدان العربية والمغاربية بشكل خاص، ثلاث خلاصات مكثفة:
  • أن جيراننا والأصحاب بالجنب، وهم شعوب ومساحات جغرافية كبيرة، يعيشون بدايات حالة تاريخية حقيقية من النهوض يطبعها الإسلام كدين وكثقافة تحرر ونهضة وبناء لها طابعها الخاص، عبر ديناميكيات الذات الأفريقية أساسا.
  • يتعين علينا التوبة من الغفلة واللامبالاة عما يجري عند الجيران والأصحاب، بالعكوف على دراسة ومتابعة ما جرى ويجري عندهم، بل والمسارعة إلى مد الجسور العلمية والثقافية معهم عبر التشبيك للتعاون، كفريضة شرعية واجبة، و”من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.
  • الوعي بالأهمية الفائقة للعمق الاستراتيجي الذي تمثله بلدان الحزام الإسلامي العظيم بالنسبة لمستقبل معظم مساحة العالم العربي، ثقافيا واقتصاديا وأمنيا وهي مصالح مشتركة ضخمة، فمستقبلنا الحقيقي يسكن في هذا العمق وليس في الضفة الشمالية للبحر المتوسط ولا في ما وراء الأطلسي
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى