بقلم : رضي الموسوي
المطران كابوجي والمطران حنا نموذجان ساطعان لرجل الدين الذي ينخرط مع شعبه في مقاومة الاحتلال والوقوف في وجه الظلم والاضطهاد والتمييز
“أبتي،،،
أظن غسول هذي الأرض من دمنا
وإنّ يداً تعتق للصباح صفاءَ أدمعنا
وإن غدا سيولد من مخاض غدٍ
فَيرحمُ حزنَ هذا الكون في أحناء أضلعنا”.
كأن الشاعر الفلسطيني الراحل يوسف الخطيب أطلق هذه الابيات الرائعة المتألقة خصّيصا إلى المطران هيلاريون كابوجي، وخبأها، ليأتي ابنه المخرج باسل الخطيب ويوظّفها في مسلسل من اخراجه، فيضع مقطعا من هذه القصيدة، كمقدمة لمسلسل “حارس القدس” الذي يروي سيرة كابوجي (كابوجي تعني الحارس بالسريانية) ونضاله ضد الإحتلال الصهيوني لفلسطين.
لكن سيرة كابوجي، مطرانا لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس (1965) تتجسد الآن، في كثير من جوانبها، في مطران مناضل آخر هو عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثودكس في القدس، الذي تعرض لمحاولة اغتيال نهاية ديسمبر 2019 ووجهت أصابع الاتهام للكيان الصهيوني في تسميمه بمواد كيماوية تم رشها بالقرب من الكنيسة، ما اضطره للعلاج في أحد المستشفيات الأردنية، حيث عاقبه الاحتلال على مواقفه المناهضة للصهاينة ولصفقة القرن التي يراد منها تطيير القضية الفلسطينية وفرض التطبيع عنوة على العرب.
وكأي نظام دكتاتوري- فاشي- عنصري، لا يفرق الكيان الصهيوني بين مسيحي ومسلم في البطش والضرب بيد من حديد لمن تسوّل له نفسه مقاومة الإحتلال، حيث يواجه أكثر من خمسة آلاف فلسطيني من الأسر في السجون الصهيونية وسط ظروف غاية في القسوة والوحشية تشبه ممارسات النازية والفاشية غداة الحرب العالمية الثانية، بل وتسعى السلطات هناك لنقل وباء كورونا إلى داخل السجون، فضلا عن تشديد حكومة الكيان الحصار على قطاع غزة بالتواطؤ مع بعض الأنظمة العربية، والاستمرار في تجريف ومصادرة الأراضي وهدم المنازل وتشييد المزيد من المستوطنات وتهويد مدينة القدس وتقطيع أوصال الضفة الغربية بالجدران العازلة.
لا يفرق الكيان بين المقاومين إلا لإضعافهم والتفرد بهم تمهيدا لتصفيتهم أو تهميشهم وتكبيلهم حتى لاتكون لهم فاعلية في مواجهة الإحتلال وووحشيته. حصل هذا مع المطران هيلاريون كابوجي السوري الجنسية الذي عشق القدس وأكد أنه “إذا كنتُ قد ولدتُ في حلب، فروحي ولِدت في القدس”، المدينة التي عايش فيها الظلم قبل النكبة عندما كان يدرس اللاهوت في كنائسها، وبعد النكبة حين تم تعيينه مطرانا لكنيسة الروم الكاثوليك في 1965، واستمر تسع سنوات قبل اعتقاله من قبل جهاز المخابرات الصهيوني (الشاباك) الذي كان يتابع تحركاته ويرصد نشاطاته التي لم تقتصر على الجانب الديني، بل تحوّل أغلبها إلى النضال ومساعدة الفلسطينيين على الصمود في أرضهم، حتى تم اعتقاله في عام 1974 بتهمة تهريب السلاح من لبنان إلى رجال المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وحكم عليه باثني عشر عاما قضى منها أربع سنوات ليتم الإفراج عنه وإبعاده عن فلسطين في عام 1978.
أمضى كابوجي حياته في روما معرِّيا الإحتلال الصهيوني ومدافعا عن القضية المركزية للأمة فلسطين وحق شعبها في تحرير بلاده وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس. وكما كان مطاردا ومراقبا في فلسطين، فقد امتدت الأيادي الإستخبارية الصهيونية إلى العاصمة الإيطالية روما، حاضرة الفاتيكان، بينما واصلت عناصر “الشاباك” مضايقتها للمطران، لكنه لم يهدأ ولم تؤثر فيه تهديدات القتل، فكان من أوائل من ركب سفن أسطول الحرية لكسر الحصار عن قطاع غزة في 2010 وكانت السفينة محمّلة بالأغذية والأدوية والأمتعة، إلا أن سلطات الإحتلال أوقفت الأسطول في عرض البحر وصادرت كل ما فيها وطردت المتواجدين في السفينة إلى لبنان.
المطران كابوجي قامة باسقة استثمر الوقت دفاعا عن الناس وقدم خدماته الجليلة لهم وناضل ضد الإحتلال الصهيوني حتى وفاته في الأول من يناير 2017، عن عمر ناهز الخامسة والتسعين.
**
أما المطران المناضل الآخر فهو عطا الله حنا، الذي تشرفنا بلقاءه في البحرين مطلع الالفية الثالثة اثناء عقد مؤتمرا لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني. هذا المطران كاد أن يفقد حياته نهاية العام الماضي بسبب مواقفه التي لا تقل أصالة عن المطران كابوجي، وربما كانت ولاتزال أكثر إحراجا للإحتلال. رجل عروبي وعضو في المؤتمر القومي العربي، يؤكد دائما على مواقفه كفلسطيني أولا وهو المولود في الرامة بالجليل عام 1965 وتشرّب بحب فلسطين فصار واحدا من الرموز المدافعين عنها وعن هويتها العربية. يقول المطران عطا الله حنا: “إننا نعتز بعروبتنا وبثقافتنا وبلغتنا وبقوميتنا العربية وبهويتنا الروحية المسيحية الأرثودكسية المشرقية، ومشكلتنا مع الصهيونية أنها حركة سياسية عنصرية، وأما القومية العربية فهي فكرة إنسانية حضارية”. رفض حنا بيع أراضي الوقف الكنسي للصهاينة، ولم يتردد في مهاجمة الذين تواطئوا وباعوا الكثير من تلك الأملاك المسيحية والإسلامية، فحل غضب الاحتلال عليه. تعرض للاعتقال عدة مرات على أيدي الصهاينة بدءا من عام 2001، ولم يتردد في الوقوف إلى جانب لبنان ومقاومته ضد العدوان الصهيوني في 2006، بخلاف بعض الأنظمة العربية التي تمنّت على الكيان تدمير لبنان على من فيه وحرق بنيته التحتية وقتل شعبه!!.
سأله، يوما، صحفي من جريدة السفير اللبنانية في عام 2013، عندما كان يشارك في تشييع المناضل نيلسون مانديلا..سأله: كيف يمكن وصف وضع الطائفة المسيحية في فلسطين؟، فكان جوابه محرجا للسائل، بتأكيده: “دعني أرفض هذا السؤال، برأيي لا وجود للطوائف في فلسطين، والمسيحيون هنا ليسوا طائفة. هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني الأصيل، بامتداده الإقليمي، وواجباته الوطنية حيال فلسطين والدول العربية”. هذا المطران المسيحي الأرثودكسي الشرقي ورأس الكنيسة في القدس، وقف على رأس وفد مسيحي ديني في قلب المسجد الأقصى وهتف ضد الاحتلال ومخططاته بحق المسجد وبحق المقدسات الإسلإمية، في الوقت الذي يقوم بعض المغرّر بهم من رجال دين بحرينيين وخليجيين بالهرولة والتدافع لزيارة الأراضي المحتلة بحماية حراب الاحتلال وبذريعة زيارة بيت المقدس، دون خجل أو وجل، لكن بصقات أطفال القدس واحذيتهم المهترئة كانت تلاحق المطبعين في ازقة المدينة العتيقة.
ثمة فرق كبير بين مقالات ومسلسلات تخصّص للتطبيع وتزوير التاريخ، وبين مسلسل “حارس القدس”، الذي يوثق حقبة من النضال الوطني الفلسطيني ضد الإحتلال وضد التطبيع معه، ويعيد الاعتبار لدور المسيحيين الفلسطينيين ونضالهم إلى جانب باقي فئات الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة. كما يعتبر من الأعمال الفنية القليلة، المعتمدة على البحث والتوثيق التاريخي العلمي في الحقب السياسية التي مر بها النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، من خلال تسليط الضوء على سيرة المطران هيلاريون كابوجي.
شكل المطران كابوجي والمطران حنا نموذجا ساطعا لرجل الدين الذي ينخرط مع شعبه في مقاومة الاحتلال والوقوف في وجه الظلم والاضطهاد والتمييز المنتشرةروائحه الكريهة في العديد من الدول العربية التي تنزلق بسرعة اكبر في سياسة الاقصاء والتهميش ضد فئات واسعة من شعوب المنطقة.