في مكان ما هنا !
دكتور محمد سعيد باه
وصلتْ، ألا يا أسعدها من قادمة من عرض الصحراء عبرت عبابها وهي تحث الخطى وكلاءة الحفيظ تحف بها لا تضل ولا تضل، لا تزل ولا تزل، لا تضيع ولا تتضعضع…
جاءت وقد شرفت بحمل أشرف مرسل وخير مهاجر وأنبل مبعوث جاءت ويد القدر تسوقها إلى تلك البقعة المختارة إلى تلك النقطة التي سينبجس منها نور أخاذ يضيء جنبات الأرض بعد أن سبحت دهرا في بحر لجي من الجهالات وفي دمس متكاثف وفي عمه متعاظم…
جاءت وهي مرقلة إلى أن دلفت إلى أرض ذات نخل نعتت له بل شخصت له كما شخصت له ذاتَ ضحى إيلياء بعد أن مر بها ذاهبا آئبا في أعجب رحلة وأغرب سفرة من السدرة المنتهى حيث رأى ما رأى إلى مهوى أفئدة السعداء حيث سيقرأ عليهم السبع المثاني ويجدد لهم عهد إبراهيم وناموس موسى وترانيم داود وكراسات عيسى (صلى الله عليهم وسلم)…
في مكان ما هنا!
عبرت الصحراء ورمالها تموج ورياحها تعصف عصفا وجانّها قد اصطفت على المرتفعات وخيمت في الوهاد تنصت بل تزغرد حبورا بالبشير، عبرت تلك الرمال المتحركة المهلكة لكن ما ساخت لها قدم ولا تاهت لها نظرة ولا داخت بل تبارت وكأنها غيمة يتيمة تحت القبة الخضراء…
هنا كانت أولي ضيافة للحبيب في ”بستان المستظل”، حين قدموا له عذق أم جرذان، فحظوا بأول وابل من تلك البركات التي تحف بهم وبذراريهم: ”اللهم بارك في أم جرذان”…
في مكان ما هنا!
جاءت فناخت ثم نهضت فدارت ثم ناخت والمختار مرخ لها العنان والمستقبلون قد اشرأبت أعناقهم كل يحلم بأن تكون له الميزة الباقية في إيواء أشرف وافد وأكرم مهاجر…
لكنها مأمورة ستختار مبركها دعوها فإن خطواتها محسوبة ونظراتها مسددة وضرباتها محمودة ولأن سعيها قد قارب الانتهاء…
ستدرك حتما ستدرك حتما ثم ستبرك بروكا هينا لينا متمايلا وكأنها تهدهد ذلك الراكب الذي لا راكب يواكبه أو يسابقه أو يساوقه…
من يحظى بحمل ذلك الرحل؟
ألا ليتني كنت ثمة لألثمه وأحمله ومن حَمل فأسير متبخترا متمايلا متغنجا وأدور بهما في أزقة الطيبة…
في مكان ما هنا!
وطئت قدماه المباركتان ذلك الأديم الطاهر وانتشر في الأنحاء عبير سماوي النكهة لا عهد للعالمين به ولا بمثله، وانتشى المستقبلون المهللون، بعد أن رجهم قلق الانتظار وهدهم هم الاستشراف، بذلك الشذى المبارك…
مشتا تلك القدمان اللتان ود الملوك لو غسلوهما فشربوا ذلك الغسيل وتاقت الاكاسرة أن لو قبلوهما ومرغوا الوجوه بأخميصيهما…
تمنوا جميعا أن لو وضعتا على رقابهم فتسمها بميسم يشرفون به أبد الدهور ويأتون بذلك الوسم يوم التغابن علامة يُعرفون ويرحمون بها…
خطوة ثم خطوة…
التفاتة بسمة، شفتان تتحركان بالاسم الأعظم الذي به تتهاطل البركات وتتدفق الرحمات وتنفرج الكربات، يتمتم بحمد آلائه التي لم يكذب بواحدة منها فأني ذلك وهو الشكور الحامد هو الأحمد المحمود!
في مكان ما هنا!
خطا في طرقات تلك البلدة الميمونة يلتقي بهم نساء ورجالا، شبانا وشيبا، استجاب لدعواتهم دعاهم فلبوا مستبشرين، كاشفهم رسم لهم مسارات الخير ودلهم على سبل النجاة وأذعنوا…
آه يا ليثرب من بقعة مباركة سعيدة إذ أوت خيرة الله من خلقه ومصطفاه من خيرته، فقد استنارت وتوهجت وتهللت، من تلك اللحظة الحانية التى تغير بها كل شيء، كل شيء: الأسماء، الأنحاء، الأجواء، الولاء والبراء، الحب والأخوة، المكاييل والأوزان، القيم والمفاهيم، الأخلاق والأفكار…، تحول كلي، انقلاب وأي انقلاب بل قل ارتقاء وارتقاء ثم ارتقاء يعقبه ارتقاء إلى ذلك الأفق الشعاعي…
من هذا الذكي المحظوظ الذي خطف الرحل؟
يا لدفين إسطنبول من حظ ونصيب إذ رحل بالرحل وصاحب الرحل لا يفارق رحله والراغبون كثر والطامعون في ذلك الخير الملفوف بالشرف جم تعدادهم من حاضرين وغائبين من سابقين ولاحقين…
في مكان ما هنا!
حياهم فحيوه بما حياهم الله به فأحيا به قلوبهم وفتح به عقولهم وصقل به أرواحهم ورقّق به ما يجيش في قلوبهم…
استظل، جلس وتحلقوا حوله، كلمهم فأطرقوا حياء وحبا واحتراما، علمهم فوعوا وذكرهم فحفظوا، أدناهم فأطرقوا…
تناول أولى لقمة باسم الرزاق ذي القوة المتين، يا ليت حبة منها تسللت من بين أنامله فألتقمها سابقا عكاشة المحظوظ…
ألفوه ساروا خلفه وأمامه حفّوا به قلقوا عليه وثقوا به سارّوه واستشاروه، ناجاهم فأنبأهم، اندمج فيهم فاعتلى عرش السؤدد، سار خلفهم ليقودهم وتركوا خلفه لملائكة الرحمن يلحون الخطي…
في مكان ما هنا!
وضع لبنة، حمل لبنة، رفع لبنة…
فشاد بتك اللبنات الصغيرات حضارة ما استظل الخلق بمثلها ولا استراحوا في فيحاء يضاهيها ولا ذاقوا لذة تساوقها…
ارتجل والصحب يرددون جذلين: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة!
جمهم فاجتمعوا آخي بينهم فأضحى تلك أوثق عرى من التوأمة، عصرهم فاستخرج ما فيهم من اعوجاج فحلقوا في سماء الاستقامة فأضحوا نسخا متكثرة من القرآنيين لم ولن تتكرر لأن معلما مثله لن يشهده العالم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…
في مكان ما هنا!
جاء رجل من عرض المجهول يسعي وهيئته تثير الفضول حتى اصطكت ركبتاه بركبتيه فجرى حوار لم يتكرر في المحفوظ من أرشيف الأحياء على هذه البسيطة ثم ما عتم أن ضرب في البيداء وليس ثمة أثر يدل على مسيره فيتعقبه مستفسر…
هنا ابتسم فحفظوا تلك البسمة النبوية وتناقلها الرواة وسيتداولها اللاحقون إلى آخر السند…
هنا ذرف دمعة حرى وقد انفطر قلبه لحظة ودع قطعة قدت منه كان يرى في تلك القطعة الطيب والطاهر وأمهم وأخواتهم، سار به إلى هناك حيث أودعه أمه الأرض وآب يلهج بذكر الله وقطرات الأسي عالقة في مآقيه وأمواج الأسي تتدفق في قلبه الوسيع…
في مكان ما هنا!
جئت من أقصى الأرض أسعى أتعثر أبكي أدقق في تلك الطرقات والعرصات وأقبّل تلك الجبال الشاهقات وتلك الوديان الواطئات، طفقت أسائل وأستفتي: أفيكم من لمح الرجل المبارك؟
هل من يدلني على بقايا جداره أمرر عليه أصبعا تلك التي سبحت ووحدت؟
لم لم تحتفظوا بجزء من ذلك الجذع كي يتسنى لي لمس أسعد مسند لأشرف مستند، آه!
لو فعلتم لاحتضنته وللثمته ولاستنطقته ليروي نتفا من تلك المواعظ السماوية التي قدت من قطرات الوحي الندي…
وها أنا اليوم، بعد قرون خلت، في مكان ما هنا أترسم مواقع تلك القدمين راجيا أن تقع قدم على قدم فأسعد بالحظوة العظمى وتقودني قدماي إلى الحوض حيث يسقيني ثم يسقيني ثم يعلّني!
ها هنا…
خطوة فخطوة يا بشراي لقد عثرت علي ضالتي، ها هي نفحات روضته تتخلل خياشيمي تنعشني تحييني، أنخت مطاياي فصليت وابتهلت ودعوت وناجيت واستيقنت بأني حظيت بذلك المني، نعم سرت على خطاه، لا ريب! مرغت وجهي المتجعد في ذلك الأديم المبارك، وتبركت بمجلسه وسجدت في مرقده ودعوت حيث دعا واستجيب له وذرفت دمعة حيث استعبر…
هنا رآه مولاه وهو يتقلب في الساجدين ناداه وأرسل له صديقه بتلك البشري الفريدة: سر قدما واتجاهك صحيح وقيامك مستقيم وسجدتك رفعة وخرورك علو وتقلبك محمود…
هنا جاءه سفير وحي السماء ليلا ونهارا، بكرة وعشيا، صيفا وشتاء، جاءه يبشره ويرشده ويصححه كما جاء ينقل له الوعيد تلو الوعيد كي يظل على الجادة سائرا ويبقى بالكتاب متمسكا ويرنو إلى العلياء غير ملتفت إلى من ارتكس إلى الأرض ففاته التحليق…
هنا داهمته العلة فكابد وعاني وتأوه واستعاذ لكن شوقا إلى مولاه قد براه وأنساه ألم فراق الأهل الوشيك ثم أعطاهم درسا وإشارة: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات!
ها هنا…
اشتاق إليهم وحنوا إليه، عز عليهم ألا يخرج الإمام إلى محرابه الذي لم يكن أقل توقا إلى صاحبه منهم…
رفع الستر فافتر عن لآلئ، استنارت أقطار أرواحهم بتلك البسمة المحمدية وحسبوا أن القائد سينهض، سيقرأ، سيحدث، سيبلغ لأن شدة التعلق أنستهم بلاغا كان قد جاءهم من السماء ولم يتذكره إلا رفيق الغار: إن صاحبكم يسير على درب موصل إلى الجنان فلا تأس، وقدر سار عليه أبوه الخليل…
ها هنا…
يرقد، نعم هنا مرقده بلا جدال؛
سمع الجميع هتاف الناعون فجزعوا، وأصاخوا السمع ثم نفوا وأنكروا ثم استيقنوا بأن دليلهم في الطريق إلى الله قد رحل لكن المعالم الوهاجة ثابتة تومضئ للسائرين المحثين الخطي للحاق به…
اليوم والساعة والعمق ومن غسل ومن كفن ومن صلى ومن أدلى ومن تلقى المصطفى..، معروف بدقة وموثق بأمانة…
الموارون الثرى معروفون…
هنا ألقيت أجمل تحية وعلى أكرم عباد الله: «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله»!
في مكان ما بين سماء الله وأرضه، وأنا عائد من تلك البقاع المباركات والروح تتلكأ تلكأ سطرتها حرفا حرفا وصورة الحبيب تطل من نافذة الروح وهي جذلي بل سكرانة بمعتقة لم تلمسها يد عاصر.