في ظلال الحروف ..!
المختار السالم
وكأنها مسافرةٌ في دمِ البلابلِ.. أنغامٌ “تيدو” لا تعبِّرُ بالضَّرُورةِ عن حدسِ خشبة مثقوبة. قالها المداح الكبير وقد تَوزَّع القومُ ينزحونَ البئرَ، بينما غطت قطعان الماشيةِ منظر الرُّبَى في كلّ اتجاهٍ، ويا للربى حين تحتجبُ عنِ الأفقِ مستترةً بآلافِ الأنعامِ، فتختلطُ في الأجواءِ سينفونية تزاوج بكلِّ شرعيةٍ بين مقاماتِ الثغاءِ والرغاءِ والخوارِ.
على التلِّ الأبرشِ؛ كانت تصفَــرُّ بشدةٍ حين تعلو الرَّبْوَةَ ويبدأ لونها بالانخفاض تدريجيا نحو السُّمرةِ، ليصبحَ قانياً في السهلِ، ثمَّ تَعْـبُرُ “الغديْرَ الناشِفَ”؛ وبسرعةٍ يتغيرُ اللونُ إلى أغبر في أسفلِها؛ أحمر في وسطها، أصفر في أعاليها، وإذا بها تتأبطُ التلَّ نحو “سميِّة الراء”..
كانت تلك العاصفة الملوَّنة تمخرُ طريقها بسرعةٍ ثابتةٍ، ثمَّ تلاشتْ عند شجيراتِ الطلحِ، ولم يسمع لها أيُّ صوت.. إذا كانتْ بعضُ العواصف تولدُ صامتة فإنِّها أيضاً قد تعيشُ وتموتُ صامتة.
لقد اختفتْ وكأنَّ شيئاً لم يحدث.. تلاشت اللوحةُ المُلوَّنةُ باختلافِ ألوانِ مناطق عبورها، ربَّما حاوَلتْ أن تكونَ صلةَ وصلٍ بين السماءِ والأرضِ، ثم استعادَ الاضمحلال بذرتهُ وتَـسَنْبلَ في اللَّاشيء، ليحدقَّ ألفُ مخيالٍ دونَ تُـفاحِةِ للمرايا أو دميةٍ تزفُّ إلى دَرَنِ اليَــمِّ بِدَعاً مُلوثةً بالخطايا، وقَصَباتٍ على شكلِ شظايا مُتَـشبِّهة بالحشايا…
أنغامٌ “تيدو” كانت قبَساً من بشرٍ آخر. “النيفارة” ظلّ الروح، رئة محمولة على جناحِ النغم. “تيدو” يعزفُ ليَحْدُثَ شيءٌ ما في الطبيعةِ، وفي الطقسِ تحديداً. إنَّهُ يعزفُ ابتهالاتٍ للمطرِ حتى إذا اغْــبَــرَّ الأفقُ دمعتْ عيناهُ، وقال لنا سوفَ أمنحكم هذه الليلة “حلبةً زرقاء”.. وعزفاً مَطَريا يُفـتِّـقُ آذانكمْ الرَّطبةَ حتى تهتزَّ وتـثمرَ في ألسنتكمْ حكايةً لسندبادٍ يجزلُ في المهرِ، ويقبضُ في الشِّعرِ.
ما كذبَ علينا قطّ، وإن تأخَّرَ أحياناً عندما يستنجدون بهِ ليعْزِفَ حتى تلد امرأة دون ألم، وكانَ شديد الحذرِ مع “خشبةِ اللحنِ”… لأنهُ لا يعي سرَّ القوة التي تجعله يتحكم موسيقياً في الأشياءِ من حوْلهِ.
كان يتجاوزُ حدودَ الوَعْيِ حين يتوغلُ في المديحِ؛ فيصفُ بالزَّجَلِ الطازجِ المخبتينَ من ذرْوَةِ سنامِ الزَّمنِ.
من هو هذا “التيدو” الغريب؟ كانتْ خصلاتُ شعْرهِ، ولوْن عيْـنَيْهِ المنعنعِ، ينابيع استفهامٍ لا ترقأ ولا تُـرْقى..
“تيدو” رفضَ أن تَخْضَرَّ نفثاتُ الرُّحَّلِ على آثارِ “الأهْلينَ”، قال إنَّ جيْرَةَ الريش والمِخْلَبِ أقلُّ ذُلاًّ في المَدَائِنِ وأوعزُ طُهْراً في المفازاتِ المُشَفَّرَةِ بالريحِ والغولِ والمُشَنْفَرَةِ بالعنقاءِ والسَّمَنْدَرِ. قال ذات مرة؛ وكان يستريح بعد أن كابدَ لضبْطِ لحْنهِ على ممشى الجملِ المشكولِ “بعدَ أمَدٍ يقدحُ الأوار، وتسْري ملة الإزارِ، وتخْبو الأوْزَارُ، وتبدي لكَ الأيامُ أنَّ الدخانَ أخلصُ وريدٍ للسَّباتِ، وأرقى مُريدٍ للشتاتِ”. قال له المداح الكبير “أتصحوٌ الخيامُ على صخْرَةٍ فطرَتْها الخطى؟”. وزادَ رَاسِنُ العِظَاءةِ “خيامٌ لمائِها دمنٌ، ولخطْوِ الدرماء بينهنَّ عطن”.. “تيدو” لم يجب.. لكنهُ رنَّـــنَ العَــزْفَ مصلاً للوشَاحِ؛ وأبكرَ في التغريبةِ بحةً، باعترافٍ رطْب.
تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب” الموريتانية