اليوم_المشهود :إعادة تشكيل الوعي السياسي وترميم الشرعية الشعبية في المشهد السنغالي – قراءة في البعد السياسي للخطاب وسيميائية الحشد الكبير..

عبد الأحد الكجوري
رئيس اللجنة العلمية لحركة دومو دارا الوطنيون

خطاب عثمان سونكو في اليوم المشهود، الموافق للثامن من نوفمبر 2025م، لم يكن أقوى خطاباته من حيث اللغة ولا أكثرها حدة في المواجهة، لكنه من حيث المضمون والدلالة يُعدّ من أكثر خطاباته أهمية في المسار السياسي الراهن، لما حمله من رسائل عميقة وأبعاد رمزية متشابكة. فقد جاء في لحظة سياسية حرجة تمرّ بها السنغال، حيث تتقاطع محاولات إعادة ترتيب الصف الداخلي لحزب باستيف مع مساعٍ محمومة من اللوبيات السياسية والاقتصادية لزعزعة الثقة في المشروع الوطني الذي يمثله الحزب، ولتشويش العلاقة القوية بين عثمان سونكو ورئيس الجمهورية جوماي.

لم يكن الخطاب مجرد استعراض خطابي، بل كان فعلًا سياسيًا مقصودًا يرمي إلى شحن الهمم واستعادة النفَس الجماعي وإحياء الثقة في مشروع التغيير. وقد اختار سونكو هذه المرة أسلوبًا أكثر اتزانًا وواقعية، بعيدًا عن اللغة الثورية العالية التي عُرف بها، ليوصل رسائل عميقة إلى أنصاره وخصومه في آن واحد. كانت رسالته الأولى موجهة إلى القواعد الشعبية التي أنهكتها الاعتقالات والضغوط التي تبعتها حتى الآن، فذكّرهم بأن الثورة ما زال مستمرة للحفاظ على المكاسب السياسية ورسم خارطة طريق لتحقيق الخطة الوطنية للتحول 2050.
بين الزعيم أمرا جوهريا وهو أن المشروع الذي انطلق من رحم الشعب لا يمكن أن يُختزل في أشخاص أو مناصب، بل هو مسار وطني طويل يتطلب صبرًا وإخلاصًا.
كما قدم رسالة إلى الداخل الحزبي، مفادها أن الوفاء للمبادئ هو معيار الانتماء، وأن من يتاجر باسم باستيف من أجل مكاسب شخصية لا مكان له في الصف الوطني الجديد.

هذا الخطاب، وإن بدا متزنًا، إلا أنه في عمقه كان حادًّا في تشخيص الأزمة التي تعيشها الدولة، خاصة في ما يتعلق بالقضاء واستخدامه كأداة لعرقلة سير حزب باستيف. فقد انتقد سونكو – ضمنيًا – اللوبيات القضائية التي تعمل وفق أجندات غير وطنية، وسماها “القضاء الموجه”، في إشارة إلى الانحراف الخطير الذي مسّ إحدى ركائز الدولة الديمقراطية. بذلك أعاد طرح سؤال العدالة كجوهر للصراع السياسي في السنغال المعاصرة، مؤكدًا أن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يتم في ظل قضاء بمعياريْن أو مؤسسات خاضعة للنفوذ المالي والسياسي.

أما من حيث الأثر الجماهيري، فقد شكّل هذا اليوم المشهود استفتاءً شعبيًا غير معلن، حيث خرجت الجماهير بأعداد ضخمة لتؤكد أن حزب باستيف ما زال القوة الشعبية الأولى في البلاد، وأن محاولات تهميشه لم تنجح في قطع الصلة بين الزعيم وجمهوره.
إن الحضور الجماهيري الكثيف لم يكن مجرد تظاهر سياسي، بل كان علامة سيميائية كبرى تعبّر عن بقاء الرمزية الثورية لـ”سونكو” حية في الوجدان الشعبي. فالحشود في حد ذاتها كانت خطابًا بصريًا، موازياً للخطاب اللفظي الذي ألقاه الزعيم، حيث تحولت الأجساد والهتافات والألوان إلى نصوص دلالية حيّة تنطق بمعنى واحد: الشعب حاضر، والمشروع لم يمت، والوطن هو كل شيء.

من منظور سيميائي، يمكن القول إن هذا الحضور جسّد ما يمكن تسميته بـ”لغة المقاومة الجماعية”، حيث أصبح كل جسد في الميدان ترجمة رمزية لفكرة الانتماء الوطني. الألوان الوطنية (الأخضر والأصفر والأحمر) التي غطّت المكان لم تكن إظهارا للشعار الحزبي، ولا لقياداته، بل رمزًا للوطنية. كذلك، فإن التفاعل العاطفي بين القائد والجماهير خلق فضاءً من المعنى المشترك، جعل من اللقاء الجماهيري مشهدًا تعبيريًا عن وحدة الدال والمدلول بين الزعامة والمشروع والشعب.

إن “اليوم المشهود” لم يكن لحظة خطابية عادية، بل طقسًا سياسيًا ووجدانيًا في آنٍ واحد. لقد تحوّل إلى فعل رمزي يعبّر عن استعادة الفضاء العمومي من قبضة السلطة التقليدية، وعن عودة السياسة إلى معناها الأصلي: تمثيل إرادة الناس لا مقايضة مصالح النخب.
هذا الحضور الكثيف، وهذه الحماسة الصادقة، أعادت رسم صورة سونكو كقائد رمزي يستمد شرعيته من الجماهير لا من المؤسسات الحكومية.

على المستوى التحليلي، يمكن اعتبار خطاب سونكو نموذجًا للخطابات التحفيزية ذات الوظيفة الرمزية، إذ تجاوز بعده السياسي نحو بعد أعمق هو إعادة تشكيل الوعي الجماعي. فقد سعى إلى ترميم المعنى السياسي لدى المواطن السنغالي الذي فقد ثقته في الدولة، وأعاد تذكيره بأن الديمقراطية لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع من خلال الوعي والنضال المستمر. بهذا المعنى، لم يكن الخطاب موجّهًا للعقل السياسي فقط، بل أيضًا إلى العاطفة الجماعية التي تشكل عمق الحركة الشعبية في السنغال.

من الناحية العلمية، تتجلى في هذا الحدث مفارقة بديعة: خطاب هادئ لكنه مشحون بالرمزية، وحضور جماهيري صاخب لكنه منضبط بالمعنى. لقد اندمج اللفظ بالصورة، والسياسة بالرمز، في نص مزدوج يصعب فصله: خطاب يُقال بالكلمات وآخر يُقال بالأجساد. ومن خلال هذا الاندماج، استطاع سونكو أن يعيد إنتاج صورته كزعيم وطني جامع، وأن يعيد ترتيب المعاني داخل الوعي الجمعي لشعب أنهكته تداعيات فساد حزب “الكلاونة” لكنه لم يفقد الأمل.

إن خطاب 8 نوفمبر 2025م هو إعلان صامت بأن مشروع باستيف لم يتراجع، وأن الزعامة السياسية في السنغال تعيش مرحلة إعادة تعريف. فهو خطاب في السياسة، لكنه أيضًا في الرمزية، في اللغة، وفي المعنى. إنه لحظة ولادة جديدة لمشروع وطني ما زال يقاوم ليحافظ على جوهره الإنساني والسيادي، مشروع يُدافع عنه الناس بأجسادهم، ويؤمنون به بقلوبهم، ويعبّر عنه زعيمهم بلسانه الصادق وإيمانه العميق بأن “الشرعية الحقيقية لا تُصنع في المجالس المغلقة بل بالشفافية والصدق مع الشعب”.