Articles

مقال تأبين: وأقيموا الشهادة لله …

بقلم المفتش : عبد الأحد لوح/ طوبى


ببالغ الحزن والأسى تلقيت نبأ وفاة رمزين بارزين من رموز الإسلام في السنغال ينتميان إلى التيار التجاني الصوفي السني، أما أولهما فهو السيد الحاج مالك سِي المتحدث الرسمي باسم الأسرة المالكية في تيواون، وأما ثانيهما فهو الشيخ أحمد التجاني سك خليفة الأسرة التجانية في تيانابا.


وعلى الرغم من أن معرفتي بالأول ظلت محدودة وتكاد تكون محصورة في ظهور طلعته البهية على شاشات التلفزة ، إلا أني كنت ولا أزال أُكِن له كثيرا من الاحترام والتقدير؛ نظرا لما كان يجسده من قيم الإسلام ومثله العليا، كتوقير الكبار، ورحمة الصغار، وعفة اللسان، والحرص على الوحدة والتآلف بين الطوائف الإسلامية المتعايشة في ربوع السنغال.

ولقد كانت جودة علاقته بشقيقه الأكبر الشيخ أحمد التجاني سي المكتوم حديث الركبان ومضرب الأمثال، ثم لم يغير ولم يبدل من بعده، بل كان خير مساعد لشقيقه الآخر الشيخ عبد العزيز سي الأمين في تحمل أعباء الخلافة، قبل أن يعينه الخليفة الحالي الشيخ أبو بكر سي ناطقا رسميا باسم الطائفة التجانية المالكية .
والحق أقول إني لم أسمع من فمه كلمة نابية، أو فحشا، أو تعريضا بمن يخالفون مدرسته في الفكر والمنهج، بل كان همه الأكبر ترويج خطاب وحدوي يرتكز على القواسم المشتركة بين المسلمين، وعلى مقومات الوحدة والوئام فيما بينهم، فسلام عليه ورحمة ورضوان في جنات تجري من تحتها الأنهار.

ولئن كانت معرفتي بالشيخ الحاج مالك سي معرفة إعلامية – إن صح التعبير- فإن علاقتي بالخليفة الشيخ أحمد التجاني سك كانت علاقة شخصية تطورت وتعمقت طيلة عقد من الزمان قضيته مفتشا للتعليم العربي الإسلامي في مقاطعة تياس التي تتبعها مدينة “تيانابا” الإسلامية، حيث كان مثالا للمرونة وحسن التعاون وصدق اللهجة والحرص على المصلحة العامة.
والواقع أني عينت في مفتشية مقاطعة تياس في مطلع العام الدراسي 2008/2009م، ولم تكن بالمقاطعة إلا مدرسة عربية فرنسية عمومية واحدة، وما إن مضت سنة دراسية حتى تفاهمنا معه حول إقامة أول مدرسة عمومية في محيط الحاضرة الإسلامية ” تيانابا سك”، وذلك في ظل ظروف نفسية وفضائية حرجة دفعته إلى أن يحتضن المدرسة العربية الفرنسية في رحاب بيت الخلافة لمدة تزيد على سنة دراسية، قبل أن يخصص لها بقعة خاصة داخل الحاضرة الإسلامية، وقد كان لهذه البدايات الصعبة تحت قيادته المباركة أثر محمود في تطور المدرسة بوتيرة سريعة من حيث إقبال التلاميذ عليها ومن حيث البنية التحتية، حتى صارت من أجمل المدارس التابعة لمفتشية مقاطعة تياس، وأقواها هيكلا، وأكثرها فصولا. ثم إن عدد المدارس العربية الفرنسية – بفضل مواقفه المشهودة – ارتفع تدريجيا وبشكل ملحوظ حتى بلغ اثنتي عشرة مدرسة عمومية قبل مغادرتي للمنطقة في أكتوبر 2018م.
وعلاوة على ما سبق، كان الشيخ أحمد من شدة التواضع وعلو الهمة بحيث يكرر زيارات مفاجئة إلى مكاتب المفتشية للتعارف مع المسؤولين ولحسم مشكلات تعترض التعليم والمعلمين في محيط تيانابا؛ وهو في كل ذلك يدور بين الفضل والعدل. و قد كان حقا محاميا للمعلمين في بلدته، ومع ذلك فحين تتبين له قضية تخالف مبدأ العدالة والإنصاف، كان يتراجع تلقائيا، ويلقي باللائمة على المخطئ في حق الإدارة.
وبالمقابل زرته مرارا في بيته، فكان آية في التواضع وصدق اللهجة وحمل الأمانة.
وكان مما يعجبك منه أنه – على جلال قدره – كان ممن يَألَفون ويُؤلفون؛ يحضر في مجلسه العوام والخواص على حد سواء ليُسمعهم من نوادر الحكم، وعجائب القصص، ما يشفي صدور قوم مؤمنين..
ولقد حفظت عنه حكايتين عجيبتين الأولى عن علاقته بالداعية الكبير الأستاذ علي غي، والثانية عن علاقته بالشيخ عبد العزيز الأمين- رحمهما الله – فأما ما يخص الأستاذ علي غي، فإن الشيخ أحمد التجاني سك كان يعلمه القرآن في صغره ، وكان يحبه حبا مفرطا، ويتذكر أنه كان يلجأ مضطرا إلى ضربه أحيانا؛ جريا على عادة الشيوخ مع طلابهم، ولكنه بعد ضربه كان يحتجب عن العيون ويبكي ببكائه حبا للطالب وإشفاقا عليه !!
وأما ما يخص علاقته بالشيخ عبد العزيز سي الأمين، فإن هذا الأخير كان يقدر ما يتحلى به من القيم والفضائل؛ فأبلغه نذرا عجيبا يتمثل في أن يهدي إليه مبلغ 500000 فرنك أفريقي كلما لاقاه، فلم يزل يفي بنذره وفاء منتظما دفع الشيخ أحمد التجاني سك في نهاية المطاف إلى أن يتحاشى لقاءه؛ مخافة أن يرهقه من أمره عسرا، ولكن الشيخ عبد العزيز آثر أن يظل ممن يوفون بالنذر عن طيب خاطر، زادهما الله رحمة ومغفرة ورضوانا.
تلك هي الانطباعات الأولية التي دارت في خلدي، وأنا أتلقى صدمة وفاة هذا العالم. وبانتقاله إلى دار القرار يسقط فرع مثمر من دوحة العلم ومكارم الأخلاق.
وتلك هي الشهادة التي ودِدتُ أداءها لله أمام التاريخ؛ تفاديا لكتمانها ” ومن يكتمها فإنه آثم قلبه….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى