Articles

لكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَـمَّ نُقْصَانُ.. وطويت صفحة أخرى من تاريخ السنغال..

بقلم/ بروفيسور محمد غالاي انجاي بروكسل

لقد عودنا التاريخ أن القامات الفكرية والثقافية الشامخة حين ترحل عن دار الفناء لا تترك وراءها فراغا محضا، بل تترك للأجيال القادمة بصمات ومعالم لا تمحى . ولا يغب عن ذي بال أن الشخصية الإسلامية التي رحلت عنا والمتمثلة في شخص الأستاذ محمد بامبا انجاي كانت من هذا الطراز . لقد خلَّف الأستاذ محمد بمبا انجاي وراءه بصمات مُشْرِقَةً ومُشَرِّفَةً من جوانب شتى. دينية، وثقافية-فكرية، وسياسية، ولولا مخافة الحشو والإطالة، لسردت كل هذه الجوانب بإسهاب، ولكن سأكتفي في هذه المقالة بإبراز بعض هذه البصمات بشكل وجيز وغير مُخِلٍّ:


الأولى: إن المرحوم الأستاذ مُحمَّد بَمْبَا انْجَايْ الجُلَفِيَّ الموطن يُجسد حقيقة أكدتها البحوث العلمية،و تتمثل في أن الحكم على العلماء والمفكرين يكون بحسب أطوار حياتهم: الشبابية، الكهولية والشيخوخة. فيتم تقييمهم حسب مراحل حياتهم ، مرحلة تلو أخرى. ذلك لأن المفكر الباحث قد يجد نفسه في وقت متعثرا ، أو أنه تنحى عن الجادة، فينقلب من حال إلى آخر ، من مذهب لمذهب ، من شك إلى يقين ، من لين إلى شدة، وهلم جرا.
وفي تاريخنا الفكري الإسلامي يعتبر أبو حامد الغزالي الملقب بـ “حجة الإسلام” خير مثال في أن “الإنسان مراحل وأطور”. فمع تجدد الجديدين قد ينمو فكره وينضج ، أو ينحدر وينتكس ، فمن له خلفية عن سيرة الرجل الراحل محمد بامبا انجاي – رحمه الله تعالى – يُدرك بكل جلاء أنه خير مثال للمثقف السنغالي المستعرب الذي عاد إلى وطنه الأصلي بعد رحلة – قصيرةً كانت أو طويلةً – قضاها في العالم العربي لاكتساب مزيد من العلم والخبرة وشهادات . لقد أظهر المرحوم، مع مرور الزمن قدرته الفائقة على التأقلم مع واقعه السنغالي الجديد ، فمن المعلوم أن كثيرا من المثقفين بالعربية تتعارك حصيلتهم العلمية والثقافية وتتصارع مع الموروث الديني والثقافي . وهذا صراع قديم ودائم معروف في مجال الفكر بثنائية “القديم والجديد”، “الأصالة والحداثة”، ويمكننا القول إن أستاذنا استطاع بحنكة وجدارة أن يبرم علاقات أخوية وودية مع سائر الأطياف المحلية، ذلك بعد أن مرَّ بمرحلة يمكن وصفها بأنها “شبابية حماسية” على غرار كتيبة من المستعربين إبان شبابهم ، ولعل انخراط فقيدنا في سلك “جماعة عباد الرحمن” قد ساعده في تَبَنِّي موقفٍ وسطيٍّ تجاه الموروث الصوفي المحلي، ذلك لأن هذه الجماعة، بخلاف بعض التيارات التي برزت على الساحة مؤخرا، عُرفت باعتدالها ووسطيتها في منهجها تجاه تركة الآباء المؤسسين، أعني التيار الصوفي ، لقد آثرت هذه الجماعة حسن الجوار والمداراة على الصدام والتعارك ، رغم وجود خلاف بيِّنٍ بينهما من منظور منهجي ، وليت بعض الجماعات المحلية من هذه الطائفة يستلهمون هذا النموذج في طريقة التعامل مع الآخر المخالف .
رحم الله فقيد الأمة وقدّس ثراه.
الثانية: يُعدُّ الأستاذ محمد بمبا انجاي – بلا أدنى شك – مِنْ جُملة المثقفين المستعربين الناجحين بكل معنى الكلمة، الذين صنعوا شخصياتهم بفضل جهودهم ، وهندسوها على قوالب تسع هندامهم. فمنذ نعومة أظفاره وهو يَكدُّ ويجِدُّ، لم يعرف للفتور والخمول سبيلا إلى نفسه ، لذلك لم يشم، طيلة ركضه في معترك الحياة، نسيم الراحة والاسترخاء، أدركته المنية وهو يسير قُدما على درب النضال ، لا يخاف في الله لومة لائم ، والمنصف يرى أن عرق جبينه لم تذره الرياح ولم يذهب هباء منثورا ، لقد قلَّد أستاذنا المرحوم مناصب قيادية مهمة ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • مسؤول ثقافي ، ثم مسؤول إعلامي، ثم عضو في اللجنة التنفيذية، ثم عضو في مجلس الشورى في “جماعة عباد الرحمان” بالسنغال
  • مترجم في سفارتي العراق ومصر بدكار في الفترة من 1982م إلى سنة 1985م
  • مسؤول إداري لدى الوكالة الإسلامية الإفريقية للإغاثة – مكتب السنغال
  • مدير للمكتب الإقليمي لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية مكتب غرب إفريقيا بالسنغال
  • مدير نشر صحفية “الرسالة (Le Messager) ”
  • وزير للشؤون الدينية عام 2008م في عهد الرئيس السابق عبد الله واد
  • مستشار للرئيس الحالي ، مَاكِي صَالْ
  • عضو مهم في منظمة المؤتمر الإسلامي
  • وينضاف إلى هذه القائمة كونه كاتبا بارعا، حيث ألف الكتاب الشهير الذي يحمل عنوان “أضواء على السنغال” عام 1988م، وهو كتاب رغم صغر حجمه يُعد من أبرز المراجع إبان صدوره، لاسيما للباحثين والمهتمين بالثقافة الدينية والحركة الإسلامية في السنغال.
    الثالثة: لقد كان الأستاذ القدير محمد بمبا انجاي نموذجا فذا للمثقف الملتزم ، في كل جبهة تُعني بالشأن الإسلامي أو المسلمين .. تراه جنديا منتصبا مناضلا. تكاد لا تجد طاولة مستديرة تُناقش فيها القضايا الإسلامية المهمة إلا وهو متربع يُدِرُّ بسخاءٍ نادرٍ مِنْ فيض ثقافته الواسعة. بحق ، كانت ديناميته متفاعلة مع كل مستجد يطرح على الساحة من قضايا تمس الدين الإسلامي. وما زال تحضرني تفاصيل النقاش الحاد الذي دار بيني وبينه وصديقنا المرحوم سيدي الأمين انياس مؤسس مجموعة “والفجر” حول “بكة ومكة” الذي تَوَلَّد من التصريح الذي أدلى به رئيس حزب « رِيوْمِي » السنغالي إدريسَ سِكْ. وما أريد أن أشير إليه هنا هو أن النقاش الذي دار بيننا كان سببا لتعارفنا وتقاربنا إخوة في الله لنصرة الإسلام والوطن ، هذا على الرغم من كوني آنذاك أول من خرج عبر شبكات التواصل الاجتماعي معارضا ومحاولا تفنيد ما ذهبا إليه في هذه القضية. لا جرم في أنه موقف يدل على سعة أفق الرجل وسماحته، بل ذلك دليل واضح على تواضعه وبساطته. كأنه خاطبني يومئذ بلسان حاله بأن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”. رحم الله فقيد الأمة وقدَّس ثراه.
    الرابعة: لا يتناطح عنزان في أن السَّيد المرحوم أوَّلُ من شغل منصب “وزير الشؤون الدينية” في تاريخ السنغال الحديث، فبصفته مستعربا، يمكنني القول – دون ما تعسف – إنَّه نجح بجدارة في خوضه تجربة عويصة لكونها كانت الأولى من نوعها لم يخضها أحد قبله. وبناء عليه، أغتنم الفرصة للقول: إن المسلمين المستعربين تقاعسوا في المطالبة ببعض حقوقهم المهمة، إن بلدا مثل السنغال حيث يُقدر عدد المسلمين فيها بـ 97 بالمائة ، ليس لهم في حكومة وطنهم وزير – ولو واحدا – مكلفا بالشأن الديني وإن تعجب فاعجب لأمرهم ، ولو بحثت ونقبّت قد تجد حقوقا أخرى مهضومة بطريقة يندى لها الجبين. لقد آن لكل من في قلبه حبة خردل من غيرة على الإسلام أن يرفع صوته قائلا: وا إسلاماه.
    وفي الختام، فإن الخاطر هاجسني أن المرحوم محمد بمبا انجاي قد بلغ الذروة في الخدمة والعطاء، من حيث أنه قدم أروع ماعنده ، فلم يبق منها ولم يذر، كأنه قدَّم لنا أحسنَ نُسخةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْ بَيْنِ النُّسَخِ التي خُلِقَتْ لَهُ، فأضحى بذلك كالبدر في التمام ، وكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين. غفر الله لفقيد الأمة وتغمده برحمته الواسعة وأبقى سعيه ونضاله في نصرة الإسلام والمسلمين والوطن نموذجا خالدا مخلدا يحتذى به.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شهادات تحث القارئ على الاجتهاد مدى حياته، كما تفرض على المستعربين السعي إلى الاندماج في الوظيفة العمومية بمختلف مجالاته.
    رحم الله الفقيد محمد بامبا وغفر له، ولأستاذي البروفيسور محمد غلاي عمرا مديدا مزينا بالصحة والعافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى