Articles

في ظلال الحروف

المختار السالم

لم أكتبْ لكم أبعد من “الجماجم المورقة”.. فذلك سيجعلكم تحرقون الورقة وتنبذون الحبرَ، وتقيمون الحدّ على المجازِ. باعتباره خدين المخيلة النائل من نصيفها بجرأة.
“الجماجم المورقة”.. هذا التعبير ليس “بدعة حداثة”. إنه فحسب تعبير من الذاكرة البصرية لهذا العبد للهِ.
ذات يومٍ أنهيت قراءة “لوحي”، وكان مزاجي دخاناً، بعدَ لسعات غصون المرخ، التي ينسي لينها لينَ الأفاعي، وتُـنسي حديَّـتُها الفَاطِرةُ للجراحِ الخنجرَ.
ثمَّ إنني كنت جائعا حقاًّ، وحال الحيِّ، في “متن” الصيفِ، لا يمنح الريق رفيقاً، فقد نفد مخزونُ الغذاء، وغادر الرجالُ بالماشية نحو “العزبان” لتبقى النساءُ والأطفالُ ومن أقعدتهم الشيخوخةُ والمرضُ و”معلم اللوح” الذي يخُوضُ غزواته على رقاع جلودنا حتى أنه لا يستثني البنت “حَـتُّو”، الطفلة التي دشنت الفتنةُ السبل بين أسنانها المفلجةِ، فكان يضربها على يديها وقدميها دون وازعٍ من جلمودٍ يعلو ويهبط بسوطهِ حيث قدِّر سُوْءُ الحظِّ.
ذات مرة قال لي “مسيرة”: “إن الحيلةَ نصفُ العقل”.. وقد توجهت إلى حي أهل “أمود” غير البعيد، حيث شهد عرسا قبل أسابيع، هناك، وبحذر، أخبرت العريس أنَّ نساءَ حيِّـنا يأتَـمِرْنَ بهِ وقد وضعن خطة لإخفاء عروسه حتى يدفع “العادة”.
أبقاني الرجل للمقيل معه فشبعت حتى تنمَّلت رؤوسُ أصابع قدميّ، وعند العصرِ أعطاني فضفاضة جميلة ومخلاة مليئة بالتمر والفستق والبسكويت، التي كانت رائحتها تشبه رائحة الخلطة التي تضعها نواكشوطيات على وجُوههنَّ.
خرجت بغنائمي ويبدو أنّ “حماد” علم بي فأدركني وزاد حمولتي بقديد وسمن مع رسالة شفهية للوالد.
الحصولُ على الثروة يفرض تأمينها من الغير ومن التحقيق “كيل بعير” عن مصدرها، وتجنب عبارات التنقيص إن كشف أني استخدمتُ الحيلة لأستطعم الناس.
حسنا. أخشى من القوارض على ثروتي إن دفنها، ولن أستأمن أحداً ولو من كهلات ما بقيّ لهنَّ غير الأمانة، ولكنَّ “ميسرة” رجلٌ غير متزوِّج، ولديه “المحصون” يرتب فيه عفشه ولا يقربه سواي.. هنالك أخفيت ثروتي لأرجع إليها كلما دعت الضرورة والضرورةُ داعية لا تنقطع.
في الغد، أيقظوني في السدس الأخير من الليل.. فترحلوا حتى ديار الخريف.
أبْـقِيَّ “المحصون” بـ”الرُّومده” وهذه ضربة لأمْنِي الغذائي، لكنْ مع ترحال الخريف اقتربنا من “دار الصيف” فتوجهت إلى “الرُّوْمْدَهْ” واستخرجتُ كنزي، وفي طريق العودة عرجت نحو شجرة كبيرة لأستريح، فلاحظتُ تحتها شيئاً مريباً تفحصته فإذا هيَّ جماجم بشرية تنبثق من داخلها أوراق نباتية شديدة الاخضرار.. كانت وكأنها مزهريات سورياليةٌ مهيبة.. تأملتها طويلاً. الجماجم تتصل بهياكل مطمورة جزئياًّ؟ أهؤلاء قوم مؤمنون أم غابرون! أسرعْتُ عائدا لأخبرَ معلم اللوح بالأمر، فأخذ بيدي قائلا: “يا نكّات القبور”، كان يعرف المكان وحين وصلنا قال: هذا فلان، وهذا فلان، وهذا.. لقد قضوا عطشاً هنا يوم “الدبران” من قرن ماضٍ وليست هذه المرة الأولى.. قاطعته: “التي تتورق فيها جماجمهم”، حدَّقَ بي قائلا: “كانوا فتية طيبين يختم أحدهم القرآن واقفاً”.
أعدنا دفن الرفات، وأنا لا أصدق بشارة ما أسمع: “لن أضربك بعد اليوم وستكون لكَ فضلة من “حلبة المرابط”. وجدتها فرصة سانحة للمساومة فطلبتُ منه أيضا إعفاء “حَـتُّو” من العقاب، فضحك ليًخبر أمِّي لاحقا بأنَّ ابنَها “مشروع امرؤ قَـيْسيِّ”.. فليكنْ.. لقد أنقذتني “الجماجم المُوْرِقة”.


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى