actualite

في ظلال الحروف
المختار السالم

إلى معْنًى ناءٍ عن الرّوح كقلب الظَّلام، ناءٍ عن اللحظات التي تخْـفِـرُ خفاء يتَـفطرُ بالبينات والـمبيناتِ.
إنَّ دمْعَةَ الرّائي لا تُـطفئُ شمعتَـهُ.. حتى وإنْ نُـعِتَ بمشعوذٍ يُخَضِّب كَـفّ الفَرَاغِ.
“الذّات النّائيةُ” تتخاطر بما عزف نَاي التّـنائي عن ذاتِه!
من اغْـبْــرَّ أدْرَكَ قـيْمَةَ الـمَشْيء.
أقولُ للريح التي تتسرّى بأقدامي: إنَّ الغُبار لا يَمنعُ الـخُطى بلوغَ أهدافَها، بل إن الغُبارَ ذاتَه قد يكُونُ الدليل على الجهد الـمبذولِ في سبيل الوُصُول إلى الهدف.
ومهما تخضَّبت أقدامٌ بالغبار أو اكتحلت به عيونٌ يبقى سيء السّمعةِ ومَحَلَّ استهجان وتذمُّر.
لكنَّ الـمعْنى تحت الغُبارِ “أكبر من جوف الفرا”. فبينما تخشى هيئة الأرصاد الجوية وإدارةِ الـمُرور والسلامة الطرقيةِ الغُبارَ، فإنَّ الفَارس الذّكيِّ قد يُدْرَكَ أنَّ انتصارهُ مرهونٌ بتحريكِ الغُبارِ لا بسُكُونـِهِ.
ولهذا فالشَّاعرُ لا يـَهْجُو الغبار لأنه يرى من خلالهِ ما لا يرى من خلال الصَّحْـوِ.. ثمَّ إنَّ الشّاعر ليس معنيًّا أبدًا بِمستظهر الخَطَرِ؛ فهو يَعِي في العواصفِ والرُّعُود والرّياح والأعاصير مظانَّ جَماليةِ الـمجهُولِ في الشَرفاتِ والأرْصِفَـةِ.
الشّاعر الذي يتعقَّبونه في النُّـصُوصِ والوديانِ، هو الشاعر الذي يريدونه هيئة لمكافحة الفقر ومرصداً لتوجهاتِ الرّأي العام وتقلباتِ الأسعارِ، وجمعية لبثِّ الطمأنينة والسّعادةِ. هذا في مجتمع لم توثق فيه حالة واحدة لزوْج يُـقدِّمُ باقة ورد لـمن لا سابقة لها ولا لاحقة!
فليكن.. فالشَّاعر ليس آلية تخمينية.
الشَّاعر هو ذلك الذي لا يأتي من حيث توقعَ الناس، إنهُ قيمة تصاعدية لا يهبطُ كأسْعَارِ خام ابرينت أو كإيقاعِ خطو البَناتِ بعد عُطلة السّاعة العَاشِرةِ.
الشَّاعر هو شالُ أغنيةِ التاريخِ على أردافِ الـجُغرافيا وأطرافِـها؛ وقدره الاسترقاء بما يَخشاهُ الآخرون فيقول ما يفعلونه وإنْ أسندَ ظهْره إلى جدار منْـقضّ.
ما لمثلِ الشاعر يتبغددُ العدمُ بفناء الفناء! ولا بمثلهِ يتلعثم الزمنُ بالحروف الحلقيةِ؛ التي تشي بذوق رحى تطحن سَنابلَ الأبَّارينَ.. إنَّ زمن الشّاعر لا يحسب بساعات الكوارتز ولا بحديث العرّافين عن منازل الفلكِ. زمن الشاعر ليس إطلاقا وقع الودع على الودع بحثا عن إيثار السلامةِ على الوجع… الشاعرُ لا يفرِّقُ بين الأزمنة في مفارشِ العطلِ.. وليست لهُ مشاكل مع وقت يُـنُوءُ بِحيِّـز الحركاتِ.
زمن القصيدة هو الشاعر ولهذا لا يمكنه أن يكون إسكافيا أو مقاولا أو تاجر خردة أو نبَّالا يبيع السِّهام في بورصة التعاور والتّناكرِ الثقافيِّ.
والشَّاعر يتـقي شرَّ النـقدِ بفصّ لكنَّ الإغارة على لغتهِ تُـشْبِهُ الارتماءَ في أحضَان مِـقَصّ.
الشاعر أهْلَكَ وأهْلِكَ إن أنشد لما دونَ اللغةِ.. ولو لحمحمة الخيل ولحاظ الشّمس واللازمة في العزفِ.. وما “يقال فوقَ ظُـهُور الخيل والإبل”.
لا يصلح الشَّاعر للمرابحةِ من المراوحة الثقافيةِ، ولا للتجارةِ أبداً حتَّى ولو باعَ العُطورَ والأزهارَ والسِّمنَ والعَسَل والـمعتَّــقَ من كل خير.. والشَّاعر لا يُدْعى لتدبيرِ الهُمُومِ فهو لا يصلحُ راعيا حتَّى للفَرَاشَاتِ. ولا يُمكنُهُ أن يتحوَّل الى منجل لتَــشذيبِ العشب أحرى أن يدلِّك عنق الجـُذور بفأس.. الشَّاعر مطلع النفس في الحسِّ وبقيتُها.. هو، فحسبْ، إلياذةُ الـمَسِّ.


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى