Articles

«الشيخ/عبد الله باه داعيةً حيًّا وميِّتًا – رحمه الله-»

د.إبراهيم جاكيتي الواوندي

بلغت أصداء خبر وفاة الشيخ عبد الله باه -رحمه الله- أطراف العالم في لحظة واحدة, حيث لم تمض من وفاته إلّا دقائق معدودة إلاّ أملأتْ صور فضيلته صفحات وسائل التواصل الاجتماعي مقرونة بالترجيع والترحم قبل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية, وهي الأخرى تسارعت إلى نقل الخبر, كما حُررت مقالات, ونُظمت أشعار رثاء له, فانتشر خبر الوفاة انتشار النار في الهشيم.
وذلك لما يتمتع به الشيخ من مكانةٍ اجتماعيةٍ مرموقةٍ في المجتمع السونينكي, وقامةٍ علميةٍ باسقةٍ في أوساط التربويين والمثقفين والمفكرين في المنطقة عموما وفي السنغال خصوصا.
فقد كان ثاني سوننكي تخرج في الأزهر الشريف عام 1974م و ظلّ يدعو إلى الله سبحانه وتعالى 49 سنة حتى وافته المنية يوم الأربعاء 19 أفريل 2023 الموافق 28رمضان 1444هـ, فقد بذل الغالي والنفيس, وضحّى بالنفس والمال في سبيل الدعوة إلى الله, فلم يبق بيت مدرٍ ولا وبرٍ سوننكي إلّا وقد وصل إليه صوته ودعوته.
فهو القدوة الأولى والمثل الأعلى في تعلم اللغة العربية والرحلة إلى الدول العربية في طلب العلم, فكان إتقانه لخصائص اللغة العربية وفصاحته في التحدث بها, وفهمه لدقائق الفقه الإسلامي مكمن محبة كثير من الشباب للعلم واللغة العربية وسرّ إقبالهم إليهما.
فكان ذلك الرجل التربوي الأكاديمي والداعية الحكيم, والمصلح الكبير الذي كان ينشده المجتمع السونينكي, عاش معلمًا مربيًا, داعيةً مصلحًا, قطع الفيافي والقفار وخاض البحار شرَّق وغرّب يدعو إلى الله, حاضر في أمريكا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا, وشارك في المؤتمرات في آسيا, ورافق الحجاج ضمن البعثة الرسمية السنغالية أكثر من عقدين, اعتذر عن رئاسة تلك البعثة انشغالاً بالدعوة والتعليم بعد موسم الحج. كان أوّل إمام راتب للمركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة في دكار (جامع السوننكيين) حتى وفاته .
نالت دعوته قبولا واسعا, وحظيت بشهرة كبيرة عند السوننكيين, أُنشأت جمعية الشيخ عبد الله باه للأعمال الخيرية في حياته ,وأُلفت مؤلفاتٌ في ترجمته, وحُررت مقالات في فضله وعلمه, وسُميت به مراكز علمية كمركز الشيخ عبد الله باه لتحفيظ القرآن الكريم في امبور, مع ذلك ظلّ رجلاً بسيطًا متواضعًا قريبًا إلى مجتمعه, يستجيب لدعوة القاصي والداني, ويلقي لهم محاضرات وكلمات, يهتم بأمر المسملين عموما وبالدعاة وطلبة العلم خصوصا.
من أكبر إنجازاته تفرغه التّام في آخر حياته للفتوى والرد على تلك الاستفسارات التي يتلقاها من السوننكيين داخل البلاد وخارجه من خلال مجموعاته الوتسابية الخاصة, فكانت تنشر أسبوعيا في كل أحد, فقد طُبع ونُشر الجزء الأوّل منها في مجلد ضخم بواسطة مكتبة تُمْبُكْتُو للنشر بتمويل من جمعية الشيخ عبد الله باه للأعمال الخيرية, وتتميز هذه الفتاوى – وهي فريدة في نوعها- بأنّها تعالج قضايا سونينكية أسرية اجتماعية دينية قلّ أن تجد لها جوابا في غيرها, وذلك لأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره, وقد كان الشيخ مُفتيًا حاذقا يدرك هذه القضايا ويتصورها بدقة؛ إذ عاش في المجتمع السونينكي وجرّب حياتهم في بلاد المهجر, ولذا أنصح كل ّ طالب علم باقتناء هذا المجلد على أمل أن يصدر المجلد الثاني قريبا تحت إشراف الجمعية ومثله في معالجة القضايا المحلية فتاوى فضيلة الشيخ الدكتور أحمد لوح حفظه الله في مجلدين فلهما قصب السبق في الباب.
لقد كتب الله سبحانه وتعالى للشيخ عبد الله باه قبولًا حيًّا وميِّتًا, فقد خرج الناس على اختلاف جنسياتهم وتعدد لغاتهم ولهجاتهم زَرافات ووُحدانا, ذكورًا وإناثًا, رِجالاً ورُكبانًا يقصدون الصلاة على جنازته في باريس –فرنسا- حيث توفي , فشهد ذلك المسجد الكبير جموعا غفيرة موثقة بمقاطع مرئية لم يشهد مثلها.
وما إن أُعلن توقيت وصول جنازته إلى دكار والصلاة عليه في المركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة إلّا وتوافد الناس إلى دكار من داخل السنغال ومن خارجها, فتولى المركز الإسلامي استقبال الوفود الرسمية, أما الوفود غير الرسمية والأفراد من محبي الشيخ وتلاميذه فقد كانوا ينسلون من كل حدَب وصوب لحضور الجنازة, وخرج الناس من بيوتهم حتى كبار السن الذين تتثاقل خطاهم في المشي يتوجهون إلى المركز لصلاة الجنازة , فكانت جنازةُ الشيخ في دكار جنازةً رهيبةً جدا, إذ امتلأ مبنى المركز بأدواره حتى ساحات المدرسة في الدور الثالث, وفاض شارع مالك سي الواسع والشوارع الفرعية النافذة إليه بالمصلين, والكاتب لم يشهد مثل هذه الجنازة في السنغال قط, بل كان يقرأ عن مثل هذه الجنائز في تراجم الرجال أمثال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله -إمام أهل السنة والجماعة- وأمثاله, وربما شاهد مقاطع جنازات رهيبة كمقطع جنازة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة.
وبدون شكٍ شهود هذه الجموع الغفيرة لجنازة الشيخ بشارات تُقوِّى رجاء ذوي الشيخ وتلاميذه ومحبيه الخير عند ربه الرحمن الرحيم « وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى».


وأنوه إلى الهدف الدعوي الذي ربما لم يتحقق للشيخ في حياته على الوجه الذي تمناه وقد تحقق بعد وفاته, هو لمُّ شمل سوننكرا, و جمع كلمتهم وتوحيد صفِّهم, وقد حقق طرفًا من ذلك بصفته عضواً مؤسسا لرابطة علماء ودعاة سوننكرا (رعد) هذا بالنسبة لأخص الخواص من أهل العلم والدعوة, أما كلمة الخواص والعوام, الرجال والنساء, والصغار والكبار , المجتمع باختلاف أطيافه, القبائل على تعدد طبقاتها, فلم تجتمع إلا بعد وفاة الشيخ رحمه الله, فقد اجتمعت كلمتهم على جلالة قدر الشيخ وغزارة علمه وسعة أفقه, وعظيم فضله وكرمه, وغيرته على دينه ومجتمعه, وبذله الغالي والنفيس لهما, وتضحيته بالنفس والمال في سبيل الرقي بهما, مما جعلت الأمة السوننكية تندم على ما حصلت منها من تقصير وجفاء تجاه علمائها وتفكر مليًّا في استعادة ما للعلم من قيمة ولأهله من مكانة ودور في الرقي بها دنيا وأخرى.
ولعلّ هذا الأمر لم يتحقق للشيخ في حياته بقدر ما تحقق بعد وفاته وبوفاته, فقد كان رحمه الله داعية إلى المُثُل العليا والقيم السامية بالحال والمقال, وتظل كتاباته تدعو إلى ذلك, وتستمر دعوته من خلال تلاميذه وجمعية الشيخ عبد الله للأعمال الخيرية, ومركز الشيخ عبد الله باه لتحفيظ القرآن الكريم, وتلك المدارس الكثيرة التي ساهم في إنشائها, كان الشيخ وسيظل داعيةً إلى الخير حيًّا وميِّتًا رحمه الله رحمة واسعة .
وفي الوقت الذي أسطر آخر هذه السطور إذ رنّ جوالي يُنعى إليّ وفاة رفيق درب الشيخ عبد الله باه في حله وترحاله, الشيخ الوقور هارون سَامسَا الذي أوصى الشيخ بأن يُصلي على جنازته, فصلى عليه يوم الأربعاء الماضي 26/04/2023 واليوم الأربعاء 03/05/2023 وهو الأخير وَافتْه المنيةُ في بيته في دكار في حي المدينة, لقد علم الله سبحانه وتعالى ما بينهما من الصدق والإخلاص في الصحبة والمحبة فلم يمكث الأخير منهما إلّا أسبوعًا واحدًا حتى لحق بأخيه وصديقه, رفقة في الدنيا وصحبة في الآخرة, رحمهما الله رحمة واسعة وغفر لهما, وأجزل لهما الجزاء على ما بذلا من خدمة ودعوة للأمة الإسلامية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى